ولد الإمام الحسن عليه السلام في المدينة المنورة ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وجاءت به امه فاطمة عليهما السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله يوم السابع من مولده في خرقة من حرير الجنة ، كان جبرئيل عليه السلام نزل بها إلى النبي صلى الله عليه وآله، فسماه حسنا وعق عنه كبشا .
وقد روى الشيخ الطوسي في أماليه : عن علي بن الحسين (عليه السلام) ، قال حدثتني أسماء بنت عميس الخثعمية، قالت قبلت جدتك فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه و آله) بالحسن و الحسين (عليهما السلام) . قالت فلما ولدت الحسن (عليه السلام) جاء النبي (صلى الله عليه و آله) فقال يا أسماء هاتي ابني، قالت : فدفعته إليه في خرقة صفراء، فرمى بها و قال ألم أعهد إليكن ألا تلفوا المولود في خرقة صفراء ، و دعا بخرقة بيضاء فلفه فيها، ثم أذن في أذنه اليمنى، و أقام في أذنه اليسرى، و قال لعلي (عليه السلام) بِمَ سمّيتَ ابنك هذا ؟ قال: ما كنت لأسبقك باسمه يا رسول الله. قال: و أنا ما كنت لأسبق ربي (عز و جل) . قال: فهبط جبرئيل. فقال: إن الله (عز و جل) يقرأ عليك السلام، و يقول لك يا محمد، علي منك بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدك، فسم ابنك باسم ابن هارون. قال النبي ( صلى الله عليه و آله ) يا جبرئيل، و ما اسم ابن هارون ؟ قال جبرئيل : شبر قال :و ما شبر قال :الحسن. قالت :أسماء فسماه الحسن .
صفاته وعبادته :
أولاً : صفاته : كان الامام الحسن عليه السلام أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله خلقا وهديا وسؤددا. وروى ذلك جماعة منهم معمر عن الزهري عن أنس بن مالك، قال: لم يكن أحد أشبه برسول الله صلى الله عليه وآله من الحسن بن علي عليهما السلام . وروى الشيخ الصدوق في الخصال باسناده عن زينب بنت ابن أبي رافع ، عن أمها قالت : قالت فاطمة عليها السلام : يا رسول الله هذان ابناك فانحلهما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أما الحسن فنحلته هيبتي وسؤددي ، وأما الحسين فنحلته سخائي وشجاعتي . وروى ابراهيم بن علي الرافعي، عن أبيه، عن جدته زينب بنت أبي رافع، وشبيب بن أبي رافع الرافعي، عمن حدثه قالت: أتت فاطمة عليها السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في شكواه التى توفي فيها، فقالت: يارسول الله هذان ابناك فورثهما شيئا ! فقال: اما الحسن فإن له هيبتي و سؤددى، واما الحسين فان له جودي وشجاعتي .
وبهذا وصفه واصفوه : كان ابيض اللون مشرباً بحمرة، أدعج العينين، سهل الخدين، كث اللحية، جعد الشعر ذا وفرة، كأن عنقه ابريق فضة، حسن البدن، بعيد ما بين المنكبين، عظيم الكراديس، دقيق المسربة، ربعة ليس بالطويل ولا بالقصير، مليحاً من أحسن الناس وجهاً. قال واصل بن عطاء: كان الحسن بن علي عليهما السلام، عليه سيماء الانبياء وبهاء الملوك . وكان من تواضعه على عظيم مكانته انه مر بفقراء وضعوا كسيرات على الارض، وهم قعود يلتقطونها ويأكلونها، فقالوا له: «هلم يا ابن رسول اللّه الى الغداء !» فنزل وقال: «ان اللّه لا يحب المتكبرين». وجعل يأكل معهم. ثم دعاهم الى ضيافته فأطعمهم وكساهم .
ثانياً : عبادته : كان أعبد الناس في زمانه وأزهدهم بالدنيا . حج خمساً وعشرين حجة ماشياً ، والنجائب لتقاد معه . وكان اذا توضأ، او اذا صلى ارتعدت فرائصه واصفر لونه . وقاسم اللّه تعالى ماله ثلاث مرات . وخرج من ماله لله تعالى مرتين . واذا ذكر الموت بكى ، واذا ذكر القبر بكى ، واذا ذكر البعث بكى ، واذا ذكر الممر على الصراط بكى ، واذا ذكر العرض على اللّه تعالى ذكره شهق شهقة يغشى عليه منها ، واذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم ، وسأل اللّه الجنة وتعوذ باللّه من النار . ثم هو لا يمر في شيء من احواله الا ذكر اللّه عز وجل .
خطبته بعد استشهاد ابيه :
قال الشيخ المفيد في الإرشاد : لما قبض أمير المؤمنين عليه السلام خطب بالناس الإمام الحسن عليه السلام وذكر حقه ، فبايعه أصحاب أبيه على حرب من حارب وسلم من سالم . روى ابو مخنف ، قال : حدثني أشعث بن سوار ، عن ابي اسحق السبيعي و غيره ، قالوا : خطب الحسن بن علي عليهما السلام في صبيحة الليلة التى قبض فيها أمير المؤمنين عليه السلام فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال: لقد قبض في هذه رجل لم يسبقه الاولون بعمل ولا يدركه الآخرون بعمل لقد كان يجاهد مع رسول الله فيقيه بنفسه، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يوجهه برايته فيكنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله، ولا يرجع حتى يفتح الله على يديه ولقد توفي عليه السلام في الليلة التي عرج فيها بعيسى بن مريم، وفيها قبض يوشع بن نون وصي موسى عليه السلام ، وما خلف صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم، فضلت عن عطائه أراد أن يبتاع بها خادما لأهله ، ثم خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه . ثم قال: أنا ابن البشير أنا ابن النذير، انا ابن الداعي إلى الله باذنه، انا ابن السراج المنير أنا من أهل بيت أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، انا من اهل بيت فرض الله مودتهم في كتابه فقال تعالى: " قل لا أسئلكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا " فالحسنة مودتنا أهل البيت، ثم جلس. فقام عبدالله بن العباس (رحمه الله) بين يديه فقال: معاشر الناس هذا ابن نبيكم ووصي امامكم فبايعوه، فاستجاب له الناس فقالوا: ماأحبه إلينا وأوجب حقه علينا، وبادروا إلى البيعة له بالخلافة وذلك في يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، فرتب العمال وأمر الامراء وأنفذ عبدالله بن العباس إلى البصرة ونظر في الامور .
معاهدة الصلح :
يقول السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي :
روى فريق من المؤرخين، فيهم الطبري وابن الاثير: «أن معاوية أرسل الى الحسن صحيفة بيضاء مختوماً على أسفلها بختمه»، وكتب اليه: «أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت، فهو لك » (الطبري (ج 6 ص 93) وابن الاثير (ج 3 ص 162)).
ثم بتروا الحديث، فلم يذكروا بعد ذلك، ماذا كتب الحسن على صحيفة معاوية. وتتبعنا المصادر التي يُسّر لنا الوقوف عليها، فلم نر فيما عرضته من شروط الحسن عليه السلام، الا النتف الشوارد التي يعترف رواتها بأنها جزء من كل. وسجّل مصدر واحد صورة ذات بدء وختام، فرض أنها [النص الكامل لمعاهدة الصلح]، ولكنها جاءت - في كثير من موادّها - منقوضة بروايات أخرى تفضلها سنداً، وتزيدها عدداً.
ورأينا بدورنا، أن نؤلف من مجموع هذا الشتات صورة تحتفل بالأصح الأهم، مما حملته الروايات الكثيرة عن هذه المعاهدة، فوضعنا الصورة في مواد، وأضفنا كل فقرة من الفقرات الى المادة التي تناسبها، لتكون - مع هذه العناية في الاختيار والتسجيل - أقرب الى واقعها الذي وقعت عليه .
صورة المعاهدة التي وقعها الفريقان
المادة الأولى: تسليم الامر الى معاوية، على أن يعمل بكتاب اللّه وبسنة رسوله (صلى اللّه عليه وآله)، وبسيرة الخلفاء الصالحين .
المادة الثانية: أن يكون الامر للحسن من بعده ، فان حدث به حدث فلأخيه الحسين ، وليس لمعاوية أن يعهد به الى احد .
المادة الثالثة: أن يترك سبَّ أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة ، وأن لا يذكر علياً الا بخير .
المادة الرابعة: استثناء ما في بيت المال الكوفة، وهو خمسة آلاف الف فلا يشمله تسليم الامر.
المادة الخامسة: « على أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض اللّه، في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وأن يؤمّنَ الاسود والاحمر، وان يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم، وأن لا يتبع احداً بما مضى، وأن لا يأخذ أهل العراق بإحنة » .
«وعلى أمان أصحاب عليّ حيث كانوا، وأن لا ينال أحداً من شيعة علي بمكروه، وأن اصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وان لا يتعقب عليهم شيئاً، ولا يتعرض لاحد منهم بسوء، ويوصل الى كل ذي حق حقه، وعلى ما أصاب اصحاب عليّ حيث كانوا ».
«وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي، ولا لأخيه الحسين، ولا لأحد من أهل بيت رسول اللّه، غائلةً، سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم، في أفق من الآفاق ».
وكان ذلك في النصف من جمادى الاولى سنة 41 - على أصح الروايات -.
ويقول السيد عبد الحسين شرف الدين في تحليله لبنود الصلح :
فلم يهدف معاوية في صلحه مع الحسن عليه السلام ، الا الأستيلاء على الملك، ولم يرض الحسن بتسليم الملك لمعاوية الا ليصون مبادئه من الانقراض، وليحفظ شيعته من الابادة، وليتأكد السبيل الى استرجاع الحق المغصوب يوم موت معاوية ..
ويظهر من تصريحات الفريقين هذه النتيجة التي وصل إليها السيد عبد الحسين شرف الدين .
تصريحات الإمام الحسن عليه السلام لشيعته :
1- « ما تدرون ما فعلت واللّه للذي فعلت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس » ..
2- وما قاله مرة أخرى لبشير الهمداني وهو احد رؤساء شيعته في الكوفة: « ما أردت بمصالحتي الا ان أدفع عنكم القتل » .. (الدينوري (ص 203))
3- وما قاله في خطابه - بعد الصلح -: « أيها الناس إن اللّه هداكم بأوّلنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وقد سالمت معاوية، وان أدري لعله فتنة ومتاع الى حين » .. (اليعقوبي (ج 2 ص 192))
ويكفينا الآن من تصريحات معاوية بعد الصلح، فيما يمتّ الى معاهدته مع الحسن عليه السلام
وأما تصريحات معاوية بعد الصلح : 1- قوله فيما يرويه عنه كثير منهم ابن كثير: « رضينا بها ملكاً » .. (تاريخ ابن كثير (ج 6 ص 220).) 2- وقوله في خطبته بعد الصلح بالنخيلة : ( إِنِّي وَ اللَّهِ مَا قَاتَلْتُكُمْ لِتُصَلُّوا وَ لَا لِتَصُومُوا وَ لَا لِتَحِجُّوا وَ لَا لِتُزَكُّوا، إِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَ لَكِنِّي قَاتَلْتُكُمْ لِأَتَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ، وَ قَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ ذَلِكَ وَ أَنْتُمْ لَهُ كَارِهُونَ، أَلَا وَ إِنِّي كُنْتُ مَنَّيْتُ الْحَسَنَ وَ أَعْطَيْتُهُ أَشْيَاءَ وَ جَمِيعُهَا تَحْتَ قَدَمَيَّ لَا أَفِي بِشَيْءٍ مِنْهَا لَه ) . ( بحار الأنوار : 44 / 48 ) فنال الإمام ما أراد ومهد الأجواء والمكان لثورة الإمام الحسين عليه السلام بهذا الصلح . يقول الشيخ صالح الكرباسي : كان الصلح الحسني ممهدا للنهضة الحسينية .. لقد نجح الإمام الحسن ( عليه السلام ) في تحقيق أهداف الصلح، فبعد مضي أيام على توقيع معاهدة الصلح أسقط معاوية القناع عن وجهه فبدأ يعترف بنواياه و يقول: إِنِّي وَ اللَّهِ مَا قَاتَلْتُكُمْ لِتُصَلُّوا وَ لَا لِتَصُومُوا وَ لَا لِتَحِجُّوا وَ لَا لِتُزَكُّوا، إِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَ لَكِنِّي قَاتَلْتُكُمْ لِأَتَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ، وَ قَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ ذَلِكَ وَ أَنْتُمْ لَهُ كَارِهُونَ، أَلَا وَ إِنِّي كُنْتُ مَنَّيْتُ الْحَسَنَ وَ أَعْطَيْتُهُ أَشْيَاءَ وَ جَمِيعُهَا تَحْتَ قَدَمَيَّ لَا أَفِي بِشَيْءٍ مِنْهَا لَه . ( بحار الأنوار : 44 / 48 ) وهكذا مكَّن الإمام الحسن ( عليه السلام ) المسلمينَ من إكتشاف حقائق مهمة و الحصول على تجربة سياسية عظيمة مهدت لتجربة أخرى أكبر. لذا فان هناك فرقاً كبيراً جداً بين المواجهتين، أي مواجهة الإمام الحسن ( عليه السلام ) لمعاوية، و مواجهة الإمام الحسين ( عليه السلام ) ليزيد بن معاوية، حيث لم تكن الأمور ملتبسة على الناس أيام حكومة يزيد كما كانت ملتبسة أيام حكومة معاوية.
قراءة جديدة في معاهدة صلح الإمام الحسن عليه السلام
قال العلامة المحق السيد سامي البدري صاحب هذه الرؤية إن قضية صلح الامام الحسن مع معاوية تعد - كما تصورها لنا المصادر التاريخية الاولى - من اخطر القضايا وأشدها تشويشا في تاريخ اهل البيت من جهة، وفي تاريخ العراق الاسلامي المبكر من جهة اخرى، وذلك لان القراءة الاولية للمصادر التاريخية الاسلامية حول الموضوع تفرض على القارئ ان يخرج بانطباعين سلبيين هما :
الاول : الانطباع السلبي الشديد عن العراقيين الاوائل الذين عاصروا الأئمة عليا والحسن والحسين عليهم السلام في الكوفة خاصة، وهو الانطباع السائد لدى كل من درس الموضوع او كتب فيه، وهو : كونهم متفرقين متخاذلين -طالما تمنى علياً فراقهم -غير قادرين على النهوض بدولة مستقلة بهم نظير ما صنعه الشاميون مع معاوية، بل كان بعض العراقيين -كما بعض الروايات - يفكر بتسليم الحسن حيا الى معاوية!!!، ولذلك اضطر الحسن الى تسليم الأمر لمعاوية!! وهذا الانطباع يستوى فيه القارئ المسلم بغض النظر عن مذهبه .
الثاني : الانطباع السلبي عن شخصية الإمام الحسن عليه السلام لدى القارئ الذي لا تربطه معه رابطة الاعتقاد بإمامته وعصمته ولا رابطة الاعتقاد بوجوب محبته واحترامه لانه من اهل البيت، كالمستشرقين الذين كادوا يجمعون على كون الإمام الحسن عليه السلام شخصية غير جديرة بان تكون ابنا لعلي!!! وانه باع الخلافة بدراهم من اجل شهواته!!! .
اما القارئ المؤمن بعصمة الامام الحسن عليه السلام فلم يؤثر عليه ذلك الركام الهائل من الروايات الطاعنة في شخصيته لإيمانه المسبق ان الحسن منزه عن ذلك وان تلك الروايات لا بد ان تكون موضوعة من قبل اعدائه لتشويه صورته .
•ويعد كتاب صلح الحسن للباحث المحقق الشيخ راضي ال ياسين رحمه الله الذي صدرت الطبعة الاولى منه سنة 1372هـ - 1952م افضل واشهر كتاب معاصر في الموضوع، وقدم له في وقته الحجة المصلح السيد عبد الحسين شرف الدين رحمه الله صاحب التآليف القيمة بكلمة تصدرت الكتاب زادت في قيمته واهميته، و من ثم سادت الرؤية التي قدمها الكتاب في النقد و التحليل واخذ بها كل من جاء بعده من الباحثين الشيعة .
•ولما كنا في دراستنا عن الموضوع خرجنا برؤية مخالفة للرؤية السائدة، مع كشف اسرار جديدة للصلح وأَلَقٍ كبيرٍ في شخصية الإمام الحسن صاحب القضية التي نهض بها ونظَّر لها وتوضيحها :
إذ تبين الرؤية الجديدة لنا ان الإمام الحسن كان أمامه أحد خيارين :
الاول : قبول اطروحة الصلح بالصيغة التي قدمها معاوية وهو ان يبقى الإمام الحسن على حكم النصف الشرقي للبلاد الاسلامية، وان يبقى معاوية على حكم النصف الغربي من البلاد الاسلامية، وهو الذي كان يطمح اليه معاوية ويرغب فيه وقد عرضه على الإمام علي ايام حكمه .
الثاني : رفض الصلح واللجوء الى الحرب، ولم يكن جيش الإمام الحسن قاصرا عن خوض معركة كالتي خاضها زمن الإمام علي، بل كان الجيش قد تعمقت بصيرته بالإمام علي واجتمعت كلمته عليه بعد حرب النهروان خاصة .
أعرض الإمام الحسن عن الخيار الاول لأنه يؤدي الى تكريس الانشقاق في الامة مع تكريس ثقافة العداء للإمام علي في الشام .
أعرض عن الخيار الثاني لتقديره انَّ الحرب لم تعد بعد تعقيد الحالة، هي الاسلوب الصحيح للعلاج، مضافا الى ان رفع شعار السلم يقتضي الاستجابة له .
وهكذا فاجأ الإمام الحسن خصمه معاوية بخيار جديد لم يدُر في خَلَدِه، وهو أن يسلم أمر العراق إلى معاوية لتكون الأمة موحدة بحاكم واحد هو معاوية، ولكن – وهذا هو المهم - يكتب مواد دستور الدولة الإمام الحسن ليتضمن شروطا أولها ان يسير معاوية بالقرآن والسنة النبوية الصحيحة وأن يتنازل عن سيرة الشيخين كمادة أساسية في الدستور وان يكون الأمر للإمام الحسن بعد موت معاوية، وان حدث للإمام الحسن حدث فالأمر للإمام الحسين، وأن ليس لمعاوية ان يعهد إلى أحدٍ من بعده، الى آخر شروطه عليه السلام، ووضع وثيقة تنازله المؤقت عن السلطة بتلك الشروط.
لقد استمد الإمام الحسن روح هذه الأطروحة الذكية من صلح الحديبية وحقق بها فتحا مبينا بكل معنى الكلمة.
ما هي نتائج هذا الفتح ؟
وقد تمثل هذا الفتح المبين كما تصوره الرؤية الجديدة لصلح الإمام الحسن بما يلي من النتائج الإيجابية:
1- فضح معاوية أمام الشاميين بانه كان يطلب الملك بكل وسيلة .
2- اتضاح حقيقة الإمام علي وولده الإمام الحسن بانهما ائمة هداية منصوص عليهم وليسا طلاب ملك .
3- توحيد شقي البلاد الاسلامية واختلاط العراقيين مع الشاميين، الذين اخذوا ينظرون اليهم والى قائدهم الإمام الحسن نظرة محبة واعجاب بهم وإكبار لهم، يستمعون إليهم، يروون لهم بتفاعل مدهش ثقافة الولاء للإمام علي التي تؤسسها احاديث النبي وسيرة الإمام علي المشرقة .
4- ارجاع هيبة الامة في قلوب اعدائها -الروم الشرقيين - على الجبهة الشمالية الشرقية.
5- واخيرا تخليص الكوفة عاصمة مشروع النهضة الاحيائية للإمام علي ومركز رجالاتها من إرهاب داخلي كان على ابوابها، قام به الخوارج التكفيريين، وقد نفذوه اولاً بالإمام علي.
وساد الأمان في الامة كلها عشر سنوات بعد توقيع وثيقة الصلح وبرز الإمام الحسن مرجعاً دينياً لمن كان ياخذ عنه معالم دينه، وعرف الشاميون وغيرهم، من عبادته وعلمه وحسن خلقه وكرمه واهتمامه بقضاء حوائج الناس ما ذكّرهم بابيه وبجده النبي.
ثم غدر معاوية بالإمام الحسن بعد عشر سنوات غدرا مبينا حين دس له السم ونقض شروط الصلح ولاحق شيعة العراق بما هو معروف وواضح في كتب التاريخ .
ما السر إذن في وجود هذا الكم الهائل من الروايات الموضوعة ضد الشيعة والعراقيين والكوفة؟
يجيب العلامة المحقق السيد سامي البدري على ذلك بقوله :
يأتي الجواب من دراستنا للغدر المبين الذي قام به معاوية خلال النصف الثاني من حكمه فقد رأيناه يقلب ظهر المجن للإمام علي باللعن والبراءة بعد الترحم عليه وذكره بخير، ويلاحق شيعته بالسجن والقتل والتهجير وبخاصة اهل الكوفة، واقترن ذلك بسياسة ثقافية منظمة لتربية النشئ الجديد في الدولة الاسلامية شرقا وغربا على لعن الإمام علي، قائمٍ على رؤية سلبية ازاءه مبنية على احاديث نبوية، فمنعت من تداول احاديث النبي التي تدعو الى محبته وموالاته وطاعته، وشجعت الناس الذين يرغبون في الدنيا في وضع احاديث مكذوبة على النبي تدعو الى معاداة الإمام علي والبراءة منه، وبذلك تكوَّن ركام هائل من الاحاديث الموضوعة ضد الإمام علي واهل بيته تداولها الناس ثمانين سنة وصارت دينا يدان به .
وحين ظهرت الدولة العباسية لم يسمح الوضع العام للدولة بتداول تلك الاحاديث لكون قيادتها هاشمية و الإمام علي هو كبير بني هاشم بعد النبي، وكونها تحركت اساسا تحت شعار مظلومية الإمام علي وولده الإمام الحسين شهيد كربلا فدثر امرها تدريجيا ولم يبق منها الا طرف من قبيل (ان عليا لا يصلي!!، ان عليا دخل حفرته وما قرا القرآن!!، ان عليا سرق والنبي قطع يده!!، ان قول النبي ياعلي انت منى بمنزل هارون من موسى اشتباه من الرواة وانما بمنزلة قارون موسى!!!) .
وقد تكررت التجربة الاموية هذه في الدولة العباسية وذلك حين رأى العباسيون انفسهم يواجهون خصمين كبيرين يقفان عقبة امام استمرار ملكهم وحفظ ولاء الامة لهم، هذان الخصمان هما :
1-الخصم الاول الحسنيون الثائرون الذين يملكون الشرعية في قبال بني العباس لأمرين:
أ-الأول كونهم ذرية المصلح الكبير الإمام الحسن صاحب الفتح المبين في انقاذ الامة من سفك الدماء بطريقة بارعة تكشف عن جدارة خاصة بحكم الامة ورعايتها.
ب- الثاني كون العباسيين قد اعطوا بيعة مسبقة لزعيم الحسنين محمد بن عبد الله بن الحسن في مؤتمر عام لبني هاشم وقد انتشر خبر هذا المؤتمر والبيعة في المجتمع .
2-الخصم الثاني مرجعية الامام الصادق التي تقوم على فكرة امامة علي واهل بيته المعصومين بوصية من النبي، وهذه المرجعية آخذة بالتوسع والنمو .
ولأن الكوفة قاعدة شعبية لكلا هذين الخصمين .
وفي ضوء ذلك فليس للعباسيين الحاكمين الا ان يحذوا حذو الامويين لضمان استمرار ملكهم بتحريف تاريخ خصومهم وهم الحسنيون، الكوفة، الشيعة، وقاموا بتحويل حسناتهم وامتيازاتهم الى عار يلاحقهم ابد الدهر .
فبدأوا يروجون للترهات والأقوايل الكاذبة بحق:
1- الإمام الحسن من قبيل افتراءات: هل هناك عار في تاريخ الحسنيين كعار ابيهم الحسن؟!!! تبايعه الامة على الحكم ثم يبيعه الى معاوية بدراهم يغدقها فيما بعد على محظياته يتزوج واحدة ويطلق اخرى ؟!!! وهل ذرية مثل هذا الانسان جديرة بحكم الامة ؟!!!.
2-وبحق الكوفة من قبيل افتراءات: هل هناك عار مثل عار الكوفة؟!! تدعو الإمام الحسين لنصرته ثم تخذله ثم تقتله ثم تحمل رأسه ورؤوس اصحابه هدية الى يزيد؟!! ثم ترفقها باسرة الإمام الحسين سبايا؟!! الامر الذي يرق له يزيد وتدمع له عيناه(!!!!) ويلعن الكوفة واميرها ابن مرجانة ؟ ويقول انه لو كان صاحبه أي الحسين ما صنع به هذا الصنيع!!!!.
3-وبحق الشيعة من قبيل افتراءات: وهل هناك عار مثل عار الشيعة الذين استجابوا ليهودي من اليمن اسلم على عهد عثمان ليتلقوا منه عقيدتهم بالامامة ؟!!(في إشارة إلى الرجل الأسطورة عبدالله بن سبأ)
ثم عالجوا مرجعية الصادق بأمرين، الأول تبني مرجعية مالك بن انس وفرضها على الناس، وتبني طلابه ليكونوا قضاة وخطباء، واشاعة الشك في مرويات الامام الصادق بل تضعيفه كما روى ذلك بن سعد، قال
جعفر بن محمد كثير الحديث ويستضعف، وكما قال يحيى بن سعيد القطان مجالد احب الي منه وقال عنه الذهبي وهذه زلقة من ابن القطان .مع ملاحقة اصحابه وسجن الامام من بعده ولده الكاظم.
وفي ضوء ذلك فان ظهور هذا الكم الهائل من الروايات الطاعنة في الامام الحسن وفي الكوفة وفي الشيعة يكون طبيعيا وكما تفرضه طبيعة الاشياء ولا نحتاج معه الى بحث اسانيد هذه الروايات الطاعنة مع وجود الروايات المادحة وذلك لان هذا المبرر وحده كاف في اسقاطها جملة وتفصيلا . ومع ذلك فاننا لم نغفل بعض الاسانيد لاجل تقديم نماذج مفيدة .
سبب استشهاده عليه السلام :
|
قال الشيخ المفيد في الإرشاد في سبب مقتل الإمام الحسن :
ولما استقر الصلح بين الحسن عليه السلام وبين معاوية على .. خرج الحسن عليه السلام إلى المدينة فأقام بها كاظما غيظه، لازما بيته، منتظرا لامر ربه عزوجل إلى أن تم لمعاوية عشر سنين من امارته وعزم على البيعة لابنه يزيد فدس إلى جعدة بنت الاشعث بن قيس - وكانت زوجة الحسن عليه السلام - من حملها على سمه، وضمن لها ان يزوجها بابنه يزيد، فارسل إليها مئة ألف درهم فسقته جعدة السم فبقى أربعين يوما مريضا، ومضى لسبيله في شهر صفر سنة خمسين من الهجرة، وله يومئذ ثمانية واربعون سنة وكانت خلافته عشرسنين، وتولى أخوه ووصيه الحسين عليه السلام غسله وتكفينه و دفنه عند جدته فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف رضى الله عنها بالبقيع .
وقال أيضا :
فمن الاخبار التى جائت في سبب وفاة الحسن عليه السلام وما ذكرناه من سم معاوية له وقصة دفنه و ماجرى من الخوض في ذلك والخطاب: مارواه عيسى بن مهران قال: حدثنا عبيد الله بن الصباح، قال: حدثنا جرير عن مغيرة، قال: ارسل معاوية إلى جعدة بنت الاشعث بن قيس: اني مزوجك ابني يزيد على ان تسمي الحسن وبعث إليها مائة ألف درهم، ففعلت وسمت الحسن عليه السلام فسوغها المال ولم يزوجها من يزيد، فخلف عليها رجل من آل طلحة فأولدها وكان إذا وقع بينهم وبين بطون قريش كلام عيروهم وقالوا: يا بني مسمة الازواج.
وروى عن عمر بن اسحاق قال: كنت مع الحسن والحسين عليهما السلام في الدار، فدخل الحسن عليه السلام المخرج، ثم خرج فقال: لقد سقيت السم مرارا ما سقيته مثل هذه المرة، لقد لفظت قطعة من كبدي فجعلت أقلبها بعود معي فقال له الحسين عليه السلام: ومن سقاكه؟ فقال: وما تريد منه؟ أتريد قتله؟ ان يكن هوهو فالله اشد نقمة منك، وان لم يكن هو فما أحب أن يؤخذ بي بريء .
قال الشيخ عباس القمي في كتابه ( منتهى الآمال ) :
إعلم أن هناك إختلافا في يوم وفاة الإمام المظلوم ، فالبعض يقول : توفي في السابع من صفر سنة خمسين للهجرة ، وقيل : في الثامن والعشرين من صفر .
دفنه في البقيع :
روى الشيخ المفيد (رحمه الله) في سبب دفن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام في البقيع ، وما صاحب دفنه من أحداث ومواجهة مع بني أمية :
لما حضرت الحسن عليه السلام الوفاة استدعى الحسين عليه السلام وقال: يا اخي اني مفارقك ولا حق بربي عز وجل ، وقد سقيت السم ورميت بكبدي في الطست ، وإني لعارف بمن سقاني السم وأنا أخاصمه إلى الله تعالى ، فبحقي عليك إن تكلمت في ذلك بشيء، وانتظر ما يحدث الله عزوجل فيّ، فإذا قضيت فغمضني وغسلني وكفني واحملني على سريري إلى قبر جدي رسول الله صلى الله عليه وآله لأجدد به عهدا، ثم ردني إلى قبر جدتي فاطمة بنت اسد رضى الله عنها فادفني هناك .
وستعلم يا ابن ام ان القوم يظنون انكم تريدون دفني عند رسول الله صلى الله عليه وآله فيجلبون في منعكم عن ذلك، وبالله اقسم عليك ان تهريق في أمري محجمة دم .
ثم وصى عليه السلام اليه بأهله وولده وتركاته، وما كان وصي به اليه أمير المؤمنين عليه السلام حين استخلفه وأهله لمقامه، ودل شيعته على استخلافه ونصبه لهم علما من بعده.
فلما مضى لسبيله غسله الحسين عليه السلام وكفنه وحمله على سريره ولم يشك مروان ومن معه من بني امية انهم سيدفنونه عند رسول الله صلى الله عليه وآله، فتجمعوا له ولبسوا السلاح فلما توجه به الحسين عليه السلام إلى قبر جده رسول الله صلى الله عليه وآله ليجدد به عهدا أقبلوا اليهم في جمعهم، ولحقتهم عايشة على بغل وهي تقول : مالي ولكم تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحب . وجعل مروان يقول : " يارب هيجا هي خيرا من دعة " أيدفن عثمان في أقصى المدينة ويدفن الحسن مع النبى صلى الله عليه وآله . لايكون ذلك أبدا وأنا احمل السيف .
وكادت الفتنة تقع بين بنى هاشم وبين بنى امية، فبادر ابن عباس إلى مروان فقال له : ارجع يا مروان من حيث جئت فانا ما نريد دفن صاحبنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله لكنا نريد أن نجدد به عهدا بزيارته ، ثم نرده إلى جدته فاطمة فندفنه عندها بوصيته بذلك، ولو كان أوصى بدفنه مع النبي صلى الله عليه وآله لعلمت انك أقصر باعا من ردنا عن ذلك، لكنه عليه السلام كان أعلم بالله وبرسوله وبحرمة قبره من أن يطرق عليه هدما، كما طرق ذلك غيره ودخل بيته بغير اذنه .
ثم أقبل على عايشة وقال لها: واسوأتاه ! يوما على بغل، ويوما على جمل تريدين ان تطفئي نورالله وتقاتلى أولياء الله، ارجعي فقد كفيت الذي تخافين، وبلغت ما تحبين والله تعالى منتصر لأهل هذا البيت ولو بعد حين .
وقال الحسين عليه السلام: والله لولا عهد الحسن عليه السلام إلي بحقن الدماء وان لا أهريق في امره محجمة دم لعلمتم كيف تأخذ سيوف الله منكم مأخذها، وقد نقضتم العهد بيننا و بينكم، وأبطلتم ما اشترطنا عليكم لأنفسنا .
ومضوا بالحسن عليه السلام فدفنوه بالبقيع عند جدته فاطمة بنت اسد بن هاشم بن عبد مناف رضى الله عنها .
والحمد لله رب العالمين
|
|
|
إرسال تعليق
التعليق على الموضوع :