ضرورة البلوغ بالاعتقاد الى درجة اليقين

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد


ضرورة البلوغ بالاعتقاد الى درجة اليقين


قال سبحانه وتعالى :

" كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين "
اعلم اخي : أن مقدمة الايمان هو الاعتقاد بالغيب والايمان به  , وتكون درجة إيمانك وقوتها حسب درجة اعتقادك  وايمانك اليقيني بالغيب .
 قال تعالى : "  الم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ "
اذا فهمت ذلك  فأنها اسرع طريق للوصول الى الله .
في كتابه " أصو تزكية النفس وتوعيتها " ذكر السيد محمد باقر السيستاني حول ضرورة البلوغ بالاعتقاد الى درجة اليقين .

اعلم أن الاعتقاد الجازم بالشيء يكون على مرتبتين : العلم الاعتيادي بالشيء , واليقين به .

إذا اعتقدت بخطأ تصرف ما لسوء عاقبته أو ضرورته من جهة أهمية آثاره , فقد يكون هذا الاعتقاد - بالرغم من الجزم به - ضعيفاً , 
لا يؤدي بك الى تجنب ما اعتقدت خطأه ولا الإتيان بما اعتقدت صلاحه , فتغلب عليك نزعاتك حتى كأنك شاك في ما عملته ومتردد في ما اعتقدته , وحينئذ لا يستتبع الاعتقاد الأثر اللائق به والعمل المناسب له , بل يضر بصاحبه من حيث إن الحجه به إثم عليه والمعذره معه منتفيه عنه .
وقد يبلغ الاعتقاد درجه من الوضوح والاستحضار لما يعتقد به حتى كأنه يعاينه ويعيش آثاره وتبعاته , وحينئذ يستتبع رعايته والعمل بمقتضاه من دون توان أو وهن , وذلك هو اليقين .
ومقتضى العقل السليم أن يبلغ المرء بكل ما يعتقده درجة اليقين كي ينتفع بعمله فيحذر مما يقتضي الحذر منه , ويرغب في ما يقتضي الرغبه فيه . 
على المؤمن أن يعتقد بالله سبحانه وتعالى حتى كأنه يراه , ويعتقد برسوله " صل الله عليه واله " حتى كأنه حاضر عنده , يصغي الى ما يتلوه من الآيات ويشهد ما جاء به من البينات , ويعتقد بانقضاء هذه الحياة حتى كأنه تجاوزها الى القبر والقيامه , ويعتقد بالجنه والنار حتى كأنه ذاقهما وعاش فيهما .
قال أمير المؤمنين " عليه السلام " في وصف المتقين : " فهم والجنه كمن قد رآها فهم فيها منعمون , وهم والنار كمن رآها فهم فيها معذبون " . وعن الامام الحسين " عليه السلام " في رسالته الى بني هاشم غداة وصوله الى العراق : " أما بعد فكأن الدنيا لم تكن والآخره لم تزل " , وعنه " عليه السلام "  في دعاء عرفه : " اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك " . 
أعلم أن الفاصل بين درجة اعتقاد المرء وهو في هذه الحياة وبين ما يكون عليه حين ينكشف له الغطاء بعد لقائه الله سبحانه وشهادته لعوالم البرزخ والقيامه مؤشر على مقدار غبنه لنفسه وخسارته في يوم " لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً " فليرق المرء باعتقاده الى درجة  لو كشف له الغطاء لم يزدد يقيناً , حتى لا يفاجأ بما يشهده غداً , ولا تلحقه الحسره والندامه على قلة اعتباره عندما بلغته أنباؤه ,
وقد قال أمير المؤمنين " عليه السلام " في بعض كلامه : " لو تعلمون ما أعلم مما طوي عنكم غيبه إذاً لخرجتم الى الصعدات تبكون على أعمالكم , وتلتدمون على أنفسكم , ولتركتم أموالكم لا حارس لها ولا خالف عليها , ولهمت كل أمرىء نفسه لا يلتف الى غيرها , ولكنكم نسيتم ما ذكرتم , وأمنتم ما حذرتم  فتاه عنكم رأيكم , وتشتت عليكم أمركم " .
فاسعوا رحمكم الله على أن يجري ذكر الله سبحانه والدار الآخره من قلوبكم مجرى الدم في عروقكم , حتى تكون أبصار قلوبكم شاخصه اليه وأعناقكم ممدوده الى لقائه  فإنكم معه .
 وضعف منشأ الاعتقاد بأن ينشأ عن تقليد وتلقين دون تبصر ومعي محضره في جميع أحوالكم , سائرون الى لقائه بكل خطوه تخطونها ولحظه تمضونها .
المفروض  بمن اعتقد بشيء اعتقاداً جازماً على أساس صحيح أن يكون موقناً  به , يملك جوانحه ويسخر جوارحه حتى يعمل على مقتضاه , إلا أن يكون هناك أموراً تحول دون سلامة الاعتقاد ونفوذه في النفس وسلطانه عليها .
الاول :  ضعف منشأ الاعتقاد بأن ينشأ عن تقليد وتلقين دون تبصره ومعاينه , فإن ذلك يوجب ضموراً في الاعتقاد ووهناً فيه يعيقه عن التأثير , لأن من تبع غيره ليس كمن عاين بنفسه , ومن ثم يلزم كل انسان أن يكون طالباً للحقيقه بنفسه باحثاً عنها بجهده , حتى يكون اعتقاده سليماً ومحفزاً له على العمل على وفقه .

الثاني : وجود شبهات غير محلوله في أعماق المرء تجاه ما يعتقد , بحيث كان اعتقاده به في حقيقته التزاماً وبناءً لا قناعه وإذعاناً , وقد علم أن الانسان قد يعقد نفسه على أمر لا قناعه له به في باطنه لتعصب أو هوى , وهذا قد يؤدي الى كون الاعتقاد عليلاً والالتزام مدخولاً حيث لا يسنده قناعه وجدانيه .
الثالث : أن يتعلق اعتقاده بأمر غائب أو مستقبلي فتتشبث النفس بما يجده حاضراً أو حالاً , لأنه يراه ملأ بصر وسمعه , فيستولي على قلبه ويزاحم ما غاب عنه حتى وإن كان جليلاً وخطيراً .
قد لوحظ بالتأمل في أحوال الناس أنهم يفنون في الواقع المحسوس الذي يعيشونه ولا يعتبرون بأعماق الواقع ولا بعواقب الأمور اعتباراًً يليق بها , حتى وإن اعتقدوا بها وأذعنوا لصدقها .
وعليه فإن المرء إذا لم يعالج هذاش الاشكال استغرق في هذه الحياة العاجله وزبرجها وغفل عن أبعادها وامتداداتها , وقد قال عز وجل : " كلا بل تحبون العاجله * وتذرون الآخره " وقال سبحانه : " يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخره غافلون " .
وكيف لا يستغرق المرء في هذه الحياة الدنيا ولا يلهو بها عن ذكر الله سبحانه والدار الآخره وهي شغله الشاغل , عليها تنفتح حواسه في تمام يومه وبها تتعلق همومه في خلواته , يتذوق متعتها أن أصابها , ويتألم لفقدها إن منعها , والمرء مأنوس بما عاشه وفكر به , فرب أخ للمرء لا يذكره لبعده , وصديق أقرب الي أخيه من نفسه .
ما أنفك المتقون عن تخصيص بعض اوقاتهم للخلوه والتفكير في أمر هذه الدنيا وآيات الله فيها وما يتجهون إليه من الدار الآخره , واذا شهدوا فناء  شيء كزهره يراها الانسان اليوم وتذبل غداً تذكروا انقضاء كل شيء في هذه الحياة وسرعة قدوم الآخره وإذا سمعوا بميت أو ذكر الأجل ذكروا أنهم على الأثر , وراعهم من ذلك ما يقبلون عليه من قلة الزاد وطول السفر وسألوا الله سبحانه إعانتهم على الاستعداد له , واذا عاشوا نعمه شكروا الله سبحانه وتعالى عليها وتذكروا الفاقدين لها من خلقه ممن لا يمتازون عليه بفضيله ولا يختصون دونه باستحقاق وقالوا في انفسهم : " الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده " واذا ارتكبوا ذنباً أتوا الى الله سبحانه وندموا من فعلتهم في محضره , وخلف ذلك حزازه في ضمائرهم وحزناً في قلوبهم بما أخفقوا فيه , واذا وجدوا في أنفسهم بطراً وإقبالاً على الدنيا خافوا ذلك وزاروا    قبور الموتى دفعاً لقساوة قلوبهم وطول آمالهم , أو لجأوا الى مسجد فتعبدواً فيه التجاء الى الله تعالى واستذكاراً للقائه .
وعلى الاجمال فإن من كان نصيبه من ذكر الله سبحانه والدار الآخره صلاته التي يصليها على سهو من قلبه واستعجال من أمره كيف له أن يقدر الله سبحانه حق تقديره وهو لا يؤمن به حق إيمانه ولا يجاهد في سبيله حق جهاده .
ولعمري إن أمر هذه الحياة , فإن لحظاتها معدوده وثوانيها محسوبه , وإن انقضاء أوقاتها وتطور أحوالها لهو جرس في مسامع النابهين وآذان لإيقاظ الغافلين قال عز من قائل : " وهو الذي جعل الليل والنهار خلفه لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً .
على الانسان أن يستحضر الله سبحانه في جميع أحواله متعلقاً به بعلائق أربع هي أصول الصفات والفضائل التي فطر الانسان عليها .
الأولى : الشعور بالشكر والامتنان بما أنعم عليه من عظيم نعمه وإحسانه , فإنما المرء في أصله صنيعه من صنائع الله , وحياته من فيض إنعامه , ولو استثمرها أدى الى سعاده دائمه , وأن الله سبحانه أولى بهذا الصنيع من غيره , إذ هو أصل كل إحسان وأساس كل إنعام , فكل من في الكون جنوده وكل نعمه هي من خزائنه .
الثانيه : حس الافتقار اليه سبحانه كما هو واقع الحال , فإن وجود الخلق كله مرهون بمدده فهم رهائن فاقة الى فضله ومعروفه , يملك من أمورهم ما لا يملكونه ويقدر من شؤنهم على ما لا يقدرون عليه كما قال عز من قائل : " يا أيها الناس أنتم الفقراء الى الله والله هو الغني الحميد " . 
ويترتب على هذه الصفه رجاء المرء إياه في جميع ما يصبوا إليه في الدنيا والآخره , وإشفاقه من قطيعته وعقابه وعدله فيهما
, فأن الله سبحانه وتعالى يحب عباده أيضاً وقد ضمن لهم الرحمه والشفقه والرأفه على ما يعلم من صلاحهم , كما قال سبحانه عن المؤمنين : " يحبهم ويحبونه " وقال : " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " وقد جاء في الآيات الشريفه وصفه تعالى بأنه رحيم رؤوف ودود بالناس عامه والمؤمنين به سبحانه خاصه .
الثالثه : مراعات الأدب بالنسبه اليه سبحانه , والأدب هو التواصل اللائق مع الآخرين , وهو مما فطر عليه الانسان , حيث كثيراً من التزاماته تجاه الآخرين ضرب من الأدب الذي يفرضه التواصل معهم حسب مراتبهم ولياقاتهم , وعلى المرء في محضر الله سبحانه أن يتأدب بما يليق بعظمته وقدرته بالتواضع لديه والخضوع بين يديه والاستحياء منه كما قال عز من قائل : " يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما  يرضى من القول " .
الرابعه : محبته سبحانه , فإنه مستجمع لجهات المحبه وأسبابها فهو أصل الانسان وخالقه والمنعم عليه والمتولي أموره والحاضر معه في جميع أحواله , فهو أولى بالمحبه من الآباء والأصدقاء وسائر المحسنين كم قال سبحانه : " والذين آمنوا أشد حباً لله " . فعى المرء تحقيقاً لذلك كله أن يسعى في تحصيل رضاه سبحانه فإنه السعاده العظمى والغايه القصوى , ويتجنب سخطه فإنه الشقاء المقيم كما قال عز وجل : " ورضوان من الله أكبر " وقال : " لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون الى الإيمان فتكفرون " . 
ولا يغيبن سبحانه وتعالى عن بال المرء بالنظر الى ظاهر هذه الحياة حيث أجرى أمورها على سنن محدده ونظام دقيق فربما عاد ذلك حجاب عن الحقيقه بدل أن يكون منبهاً عليها , وسوف ينكشف للمرء هذا الحجاب بعد الرحيل  من هذه الحياة وفي الآخره حيث يظهر ما كان باطناً وينجلي ما كان مشتهباً وأن الملك كله لله سبحانه وتعالى . 
أما ما على الانسان أن يتصف تجاه رسوله - مضافاً الى الإذعان برسالته - بصفات خمس : 
الأولى : تصديقه في ما بلغه عن الله سبحانه .
الثانيه : إطاعته في ما أمر به , حيث أمر الله سبحانه وتعالى بطاعته .
الثالثه : التأسي به في منهجه وسلوكه في الحياة , فإن الله جعل الأنبياء مثلاً لسائر خلقه وأمر بالاهتداء بهديهم كما قال سبحانه : " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " وقال : " لقد كان لكم في رسول الله أسوه حسنه لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً " وقال أمير المؤمنين " عليه السلام " في بعض كلامه بعد وصف إعراض النبي " صل الله عليه واله " عن الدنيا والأمر بالتأسي به : " فما أعظم منة الله عندنا حين أنعم علينا به سلفاً نتبعه وقائداً نطأ عقبه " وقال عليه السلام عن نفسه : " ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه "   
وإياك أن تعتذر عن التأسي بهم برفعة مكانهم وعلو شأنهم , فإن ذلك كلمة حق يراد بها باطل , وهي تلبيس الشيطان وأحابيله , فراراً عن العمل وهروباً عن الاقتداء ولا محيص للمؤمن من أن يمشي في صراطهم ويقتدي بفعالهم ويطأ عقبهم , فإن لم يستطع بلوغ مبلغهم واللحاق بهم فإن عليه أن يعذر الله من نفسه بمتابعتهم بورع واجتهاد وعفه وسداد .
ويجب للمصفين من عترته مثل ما يجب له " صل الله عليه واله " عدا مقام االنبوه ومقتضياته .
أما ما ينبغي للمرء تجاه الدار الآخره طب أمور :
الاول : أن يحل محل رضا الله تعالى ودار ضيافته غير مطرود منه ولا مقطوعاً عنه ولا مهجوراً من قبله , فما آلم أن يجد المرء ذكرها دائماً نفسه غداً في موضع سخط الله سبحانه والبعد منه والعقوق له , بعد أن سقطت الحجب ورفع الغطاء وبان له عياناً حقيقة الأمور , وظهر له أن الملك كله لله الواحد القهار . فإن كان قد غفل عن ذلك أو أغفل نفسه للحجاب المضروب في هذه الحياة فإنه سوف يستيقظ يوم تنكشف الحقائق وتظهر السرائر , ولا يمكنه التدارك حينذاك .
الثاني : أن يتشوق الى نعم الآخره مما أعده الله تعالى للصالحين ويتذكرها دائماً , ولاسيما في موضعين :
أحدهما : عند معانات الضيق وابتلاء بالمصيبه , حيث يتأمل ما أعد الله سبحانه للصابرين كما قال تعالى : " الذين إذا أصابتهم مصيبه قالوا إنا لله وإنا اليه راجعون " .
والآخر : عند تذوق نعمه فيرجو لنفسه مثلها أو خيراً منها في الآخره .
ومن الجهل وسوء الأدب أن يتظاهر المرء بالاستغناء عما يحتاج اليه ويترفع عما هو مطبوع عليه في محضر من هو مصدره في حوائجه وعونه في نوائبه .
نعم لا شك في أن طلب رضوانه سبحانه وتعالى أشرف وأعلى ولكن لا تزاحم بين الأمرين فالمرء مفطور على الحاجه الى ذلك كله , نعم إذا تزاحم الأمر بين معنى واحتياج  مادي كان الراجح منهما مراعاة الأول بطبيعة الحال .
الثالث : أن يحذر عقاب الآخره وعتابها . أما  عقابها فهو ما أعده الله للمتكبرين عن عبادته وغيرهم من االعصاة من نار جهنم وهي نار تطلع على الافئده   لا يخمد لهيبها ولا يسلم نزيلها .
وأما عتابها فهو ما يترتب على قلة  اهتمام المرء بأمر دينه وآخرته وضعف إيمانه بهما وإن لم يؤد الى الوقوع في المعصيه فعلاً , من توقفه في العقبات ومداقته في مقام الحساب , وطول مكثه في مواقف القيامه التي تجعل الولدان شيباً , وحرمانه من امتيازات المخلصين  الذين كان الله سبحانه والدار الآخرة ملء نفوسهم حتى نظروا اليه ببصائرهم وصغر كل ما سواه .
والحمد لله رب العالمين
















***********************


***********************

إرسال تعليق

التعليق على الموضوع :

أحدث أقدم