حقيقة الصبر

بسم الله الرحمن الرحيم
 اللهم صل على محمد وال محمد


حقيقة الصبر

الصبر : حبس النفس عن الهوى مع مراعات تكليف المولى . بل يمكن تعريفه بالمعنى العام ليشمل صبر الواجب والممكن وأنواعه وأقسامه . بأن يقال : هو تقدير الشيء بالنحو الأتم على ما يناسب النظام الأحسن . نوعياً كان أو شخصياً . فيشمل صبر الواجب إذ أطلق الصبور عليه تعالى في الأسماء الحسنى . على ما روي عن نبيننا الأعظم " صل الله عليه واله " وما ما ورد في الحديث القدسي وفي الحديث : ( لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وجل ) .
وفي دعاء المجير : يا صابر . فإنه يتفرع منه الحلم والعفو والرفق والمداراة . كل ذلك متشعب عن الصبر المختلف باختلاف الخصوصيات والجهات فيختلف معناه كذلك . فلا نحتاج الى تفسير الصبر فيه تعالى بالمعنى العدمي أي : عدم التعجيل في عقوبة العصاة كما عن جميع المفسرين واللغويين .
 والصبر في الانسان قد يكون من طبيعته وجبلته . فإننا نرى أن بعض الأفراد يصبر على ما يرد  عليه من المكاره ويتحمل المشاق ما لا يقدر غيره على تحملها . وقد يكون بالاكتساب والمصابره وهذا أفضل من القسم الأول .
وهو موضوع منازل السائرين الى الله تعالى في سيرهم وسلوكهم . وأهم عمادهم في التخليه عن الرذائل والتحليه بالفضائل . والتجليه بالتخلق بأخلاق الله تعالى . وبقية الدرجات من الفناء والطمس والمحو والمحق وغيرها مما شرحه أهل الفلسفه العمليه والعرفاء .
والصبر لا يتحقق إلا مع عقد القلب عليه . والعزيمه على الاستمرار عليه . وإلا فإن صرف وجود الشيء لا أثر له وإنما الأثر يترتب على البقاء وهو يحصل بالصبر والمصابره والاستقامه على تحمل المكاره . ولذلك كان الصبر من عزائم الامور فقال تعالى :
( يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن النكر واصبر على ما أصابك إنّ ذلك من عزم الامور ) .
وعن علي " عليه السلام " : ( ألق عنك واردات الهموم بعزائم الصبر . عود نفسك الصبر . فنعم الخلق الصبر ) .
في الامور الاختاريه الصبر على قسمين :
الأول : على ما تكره النفس وهو مقاومة النفس للمكاره الوارده عليها وثباتها في مقابلها . وعدم تأثرها وعدم انفعالها . وقد يعبر عن ذلك بالشجاعه وسعة الصدر أيضاً .
الثاني : على ما تحبه النفس فهو مقاومة النفس لمدافعة القوى الشهوانيه والغلبه عليها بالعقل والفكر . وكل ذلك من الحكمه العمليه التي أهتم الفلاسفه وعلماء الأخلاق لشرحها . فما ورد في السنه المقدسه من : ( أن الصبر مفتاح  الدرك  ) مطابق للقاعده العقليه لأنه دخول في الشيء من أحسن أبوابه .
وقد أشار نبينا الأعظم " صل الله عليه واله " الى عظيم منزلته لما سئل عن الإيمان  فقال " صل الله عليه واله " : ( هو الصبر ) .
الصبر أم الفضائل وأصل مكارم الأخلاق . ومنه يتفرع كل موهبه ومكرمه . فكما أن الحي القيوم أم الأسماء الحسنى ومنهما تتفرع سائرها كذلك الصبر فهو حقيقة مقاومة المكاره  والشهوات والمشتهيات . والاستقامه على ما يرتضيه العقل والشرع من محاسن الأخلاق . والوصول الى المعارف والكمالات والمواظبه على الواجبات وترك المحرمات .
وقد عني الله تعالى به عنايه بليغه . فقد وردت مادة ( صبر ) في القرآن الكريم في ما يقارب من مئة موضع . ولم ترد فضيله أكثر ذكرا منه فيه . وقد تكرر الأمر به قال تعالى : ( واصبر فإنّ الله لا يضيع أجر المحسنين ) وقال جل شأنه : ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) وقال عز وجل : ( فاصبر إنّ وعد الله حق ) .
والصبر من صفات الأنبياء والمرسلين الذين أمرنا بالاقتداء بفعلهم والاهتداء بهديهم قال تعالى مخاطباً للرسول الاعظم " صل الله عليه واله " : ( اصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم )  وقال جل شأنه : ( ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ) وقال تعالى : ( وجعلنا منهم أئمه يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بأياتنا يوقنون ) .
فالصبر من أهم مقومات حياتهم " عليهم السلام " ومن أقوى محققات شؤنهم . فما بعث الله نبياً ولا أرسل رسولاً . ولم يفض علماً على عالم إلا كان الصبر أليفه . حتى صار النصر حليفه وقد تحمل من المشاق حتى صار شهير الآفاق . وذلك من سنة الله :
( ولن تجد لسنة الله تبديلاً ) .
وقد عد الصبر في السنه المقدسه من جنود العقل . وضده جنود الجهل فهو حيث كونه من جنود العقل له دخل في نظام التكوين .
ومن حيث إنه الإيمان أو جزء الأيمان له دخل في نظام التشريع فهو جامع للمنزلتين وحائز للدرجتين . فله دخل في الأمور الطبيعيه فإن مراتب استكمالها لا  تتم إلا بالتدرج وعدم العجله وإن لم يصح إطلاق الصبر بالمعنى المعهود عليها . ولذلك ترى أن بذور النباتات والأشجار لا تصل الى مرتبة الكمال إلا بالتدرج وقد ورد في الحديث : أن ذكر ستة أيام في خلق السموات والأرض . إنما كان لتعليم العباد التأني والصبر . وإلا فهو قادر على خلقهن في أقل من ذلك . فهو من أهم موجبات تحقق المقاصد والظفر بالمطلوب . إن توفرت بقية الشرائط . قال علي " عليه السلام " : ( لا يعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمان ) فليس للصابر إلا أن يظفر بالمقصود . أو بما أعده الله تعالى له من الأجر المحمود .
الصبر عن الشيء مره يكون مع وجود المقتضي وفقد المانع خارجاً . وثانياً مع الميل النفساني وعدم المقتضي . وثالثاً مع الميل ووجود المانع . وتختلف مراتب فضل الصبر باختلاف هذه المراتب .
وللصبر أنواع وأفراد كثيره كلها من الفضائل . ولكل فرد أسم خاص به . وضدّ مختص به . فيسمى الصبر في الحروب شجاعه وضده الجبن . وفي المصيبه الصبر وضده الجزع . وفي الحوادث المضجره رحابة الصدر وضده الضجر . و وأن كان في الكلام سمي كتماناً وضده الاذاعه والافشاء . وإن كان الصبر عن المفطرات سمي صوماً وضده الافطار . وعن شهوة البطن والفرج سمي عفه وضده التهتك . وأن كان في كظم الغيظ والغضب سمي حلماً ويضاده التذمر . وأن كان عن حطام الدنيا سمي زهداً وضده الحرص . وفي المأكل والمشرب سمي قناعه وضده الشره . وقد سمّى الله تعالى كل ذلك صبراً وأشار اليه في قوله تعالى :
( والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) .
والصبر من الصفات ذات الاضافه . فإذا لوحظ بالتنسبه اليه تبارك وتعالى كان محبوبه ومورد بشارته . وإذا لوحظ بالنسبه الى الصابر كان من جهات كماله ومكرمه له . وإذا لوحظ بالنسبه الى الاجتماع كان مورد التحبب والتودد والعنايه .
والصبر في كل شيء بحسبه شرط لا يصل الى مرتبة يقبح الصبر فيها شرعاً أو عرفاً  وعقلاً . وإلا فلا يكون صبراً مرغوباً كالصبر على هتك العرض أو المال أو النفس وهو قادر على دفع المظالم . وعليه ينقسم الصبر بحسب الاحكام التكليفيه  الخمسه .
وقد ورد في الشرع موارد يستحب التعجيل فيها فعن نبيناً الأعظم " صل الله عليه واله " : ( خير الخير ما كان عاجله ) وعنه " صل الله عليه واله " ( عجلوا بموتاكم الى مضاجعهم ) وفي نصوص كثيره التعجيل في تزويج الأبكار بالكفؤ والتعجيل بإتيان الصلاة في أول وقتها .
ثم إنّ في الصبر عن الشهوات النفسانيه فضلاً كبيراً فعن الباقر " عليه السلام " : ( الصبر صبران , صبر على البلاء حسن جميل , وأفضل الصبر الورع عن محارم الله ) سواء أكان الصبر فيها مع تهيئة أسبابها  أو مع إمكان التهيئه أو مع عدمهما معاً .
والصبر عنها يدور مدار زوال حب النفس والهوى . وترك متابعة الدنيا . والأولان يرجعان في الحقيقه الى ترك حب الدنيا . بل يدور جميع مكارم الأخلاق مدار اجتنابها . ومذام الأخلاق مدار التقرب منها . وقد تواتر عن نبينا الأعظم " صل الله عليه واله " :
 ( حب الدنيا رأس كل خطيئه )
وعلامة تقوية الصبر وإضعاف حب الدنيا كثرة التفكر في الدنيا وفنائها . وأنها أقوى الحجب عن الوصول الى المعنويات بل أصل الحجب الظلمانيه عن المعارف الربوبيه والأخلاق الإلهيه .
والحمد لله رب العالمين 

***********************


***********************

إرسال تعليق

التعليق على الموضوع :

أحدث أقدم