العرفان العملي / حب الله للتائب

  بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على محمد وال محمد 



حب الله للتائب


عزيزي التائب !!!

لتعلمن مبلغ حب الله لك ، إقرأ الآيه : ( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) .

إنك عندما تصل أحد معارفك بعد انقطاع  ، يواجهك مراراً بما كان من قسوتك ، ويمطرك بوابل عتابه ، ويتحث عن جفائك .. لكن الموقف هنا غير ذاك الموقف ، فابدأ اولاً بشكر الله وحمده على أنه أفاض عليك بخلاصك من دار الشيطان وبلوغك دار الرحمن .

قال تعالى : ( من تاب وعمل عمل صالحاً فإنه يتوب الى الله متاباً ) .

ثم فكر بمدى حب صاحب الدار لك وهو يأبى أن يلومنك على خطاياك في الدنيا والآخره ، ويستر ذنوبك عند الآخرين  _ وحتى عند الملائكه الموكلين عليك _ ولتتوثق من هذا المبدأ تماماً ، أصغ لكلام  الامام الصادق " عليه السلام " حيث يروى عن معاويه بن وهب : 

( سمعت ابا عبد الله _ ويقصد الامام الصادق "عليه السلام " _ يقول : إذا تاب العبد توبه نصوحاً  أحبه الله فستر عليه ، فقلت : وكيف يستر عليه ؟  قال : ينسي ملكيه ما كانا يكتبان عليه ويوحي الى جوارحه والى بقاع الارض أن اكتمي عليه ذنوبه ، فيلقى الله عز وجل حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب ) . 

وجاء في حديث آخر : 

( إن الله عز وجل أعطى التائبين ثلاث خصال لو أعطى خصله منها جميع أهل السماوات والارض لنجوا بها : 

1 - قوله عز وجل : " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين "  ، فمن أحبه الله لم يعذبه .

2 - وقوله : " الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا ، ربنا وسعت كل شيء رحمه وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم " .

3 - وقوله عز وجل : " والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً ، يضاعف له العذاب يوم القيامه ويخلد فيه مهاناً ، إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً " .

وهل تبغي خصالاً أفضل من هذه الثلاث ؟ فبم أحدثك في شأن الله لك ؟ وماذا عساك أن تسمع مني ؟

إقرا الحديث التالي وردده مع نفسك مرات ومرات ففيه نداء لعلى التائب أن يطرب له حتى يحلق سروراً الى السماء العلى : 

( قال الامام الباقر " عليه السلام " : أن الله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضل راحلته وزاده في ليله ظلماء فوجدها ، فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها ) .

فسرور العاثر على راحلته إنما هو لنفسه عسى أن تنجو روحه بفضل الزاد والمركب أما سرور الله وهو الغني عن الجميع فإنه لك وبك ، فهل لك إزاء هذا الرب أن تقدر حبه وتتقدم خطوه نحو الامام اليه فتترك الجفاء وتعتصم بالوفاء ؟ 

وأنت الذي تتمادى في حب نفسك ، تجهد كل هذا الجهد لرعاية جسمك الفاني ، وتحرص على إزالة التلوثات عنه ، وتزور الطبيب بمجرد التفاتك الى أبسط مؤشرات المرض فترضى بأخذ الدواء المر ، أليس حري بك ان تطلب العلاج وتتعاطى الدواء لروحك الازليه؟

دعني أقرأ عليك حديثاً آخر مثل هذا النوع من الدواء والعلاج : 

( لكل شيء دواء ودواء الذنوب الاستغفار ) .



ولتحببن الله مثلما يحبك ولا توليه ظهرك إدباراً استمع الى هذه الحكايه لتفهم مدى حبه لك  : 

قال الامام الصادق " عليه السلام " : ( إن آدم " عليه السلام " قال : يا رب سلطت علي الشيطان وأجريته مني مجرى الدم فاجعل لي شيئاً ، فقال : يا آدم جعلت لك أن  من هم من ذريتك بسيئه لم تكتب عليه ، فإن عملها كتبت عليه سيئه ومن هم منهم بحسنه فإن  لم يعملها كتبت حسنه فإن هو عملها كتبت له عشراً ، قال : يا رب زدني ، قال : جعلت لك أن من عمل منهم سيئه ثم  استغفر لها غفرت له ، قال : يا رب زدني ، قال جعلت لهم التوبه ) .

هذا ما وعدك الله به وهو يكلم جدك النبي آدم " عليه السلام " : فرصه ممتده للتوبه حتى تبلغ النفوس الحناجر ، فما هو نهجك مع مثل هذا الرب ؟ .

لا اعلم هل قصدت الصيد حتى الآن ، حتى إن لم تكن فعلت فقد سمعت أن الصياد قد يقضي ساعات أو حتى الايام متربصاً بالفريسه مختاراً السكوت بل السكون والكف عن الحركه أحياناً لعله يظفر بالصيد ، فهل تعلم أن الله بانتظار توبتك طوال فترة حياتك ؟ .

اسمع الامام علي بن الحسين السجاد " عليه السلام " وهو يردد في دعاء أبي  حمزه الثمالي : ( واعلم  انك للراجي بموضع إجابه وللملهوفين بمرصد إغاثه ) .

يقول معاويه بن وهب : خرجنا الى مكه ومعنا شيخ متأله متعبد لا يعرف هذا الامر - ويقصد ما ينص علي المذهب الشيعي - يتم الصلاة في الطريق ، ومعه أبن اخ له مسلم - أي مؤمن - فمرض الشيخ فقلت لابن أخيه : لو عرضت  هذا الامر على عمك لعل الله أن يخلصه ، فقال : كلهم : دعوا الشيخ حتى يموت على حاله فإنه حسن الهيئه .

يردف معاويه أن ابن الاخ لم يصر على رأيهم فقال : يا عم ان الناس ارتدوا بعد رسول الله " صل الله عليه واله " إلا نفراً يسيراً وكان لعلي بن ابي طالب " عليه السلام " من الطاعه ما كان لرسول الله " صل الله عليه واله " وله بعد رسول الله الحق والطاعه .

ثم سأله عن رأيه في ذلك فتنفس الشيخ وشهق وقال : أنا على هذا وخرجت نفسه .

يقول معاويه : فدخلنا على أبي عبد الله " عليه السلام " فعرض علي ابن السري هذا الكلام على أبي عبد الله " عليه السلام " فقال : هو رجل من أهل الجنه ، قال علي ابن السري : إنه لم يعرف شيئاً من هذا غير ساعته تلك !! قال : فتريدون منه ماذا ؟ قد دخل الجنه والله الجنه .

فهمت مما سمعت ضمن هذا الحديث أنه لابد من التمرد على الهوى والإقبال نحو الله ما دامت الروح تتردد في الانسان ، فقد يحين موعد الرحيل فجأه وتفوت  فرصة الإنابه ، ففي روضة الكافي نقرأ المواعظ التي حبا الله سبحانه وتعالى النبي عيسى " عليه السلام " بها بقوله عز وجل : (( يا عيسى تب الي ، فإني لا يتعاضمني ذنب أن أغفره وأنا أرحم الراحيم ، اعمل لنفسك في مهله من أجلك قبل أن لا يعمل لها غيرك ، واعبدني ليوم كألف سنه مما تعدون فيه ، أجزي بالحسنه أضعافها ، وأن السيئه توبق صاحبها ، فامهد لنفسك في مهله ونافس في العمل الصالح ، فكم من مجلس قد نهض أهله وهم مجاورون النار ، 

يا عيسى ! ازهد في الفاني المنقطع وطأ رسوم منازل من كان قبلك فادعهم وناجهم ، هل تحس منهم  من أحد  وخذ موعظتك منهم ، واعلم انك ستلحقهم في اللاحقين )) .

وكان رسول الله " صل الله عليه واله " يكثر من ترديد الدعاء : 

(( اللهم اغفر لي كل ذنب وتب علي ، إنك انت التواب الرحيم )) .

ويروى : " أن إبليس قال : وعزتك لا أزال أغوي ابن آدم الى المعصيه ما دامت الروح في بدنه ، فقال الله تعالى : وعزتي وجلالي لا أمنعه التوبه حتى يغرغر بروحه " .

فإن كان للانسان همه فليصحوا بها قبل انتهاء فرصة العمر ويقبل على ربه العزيز الكريم ، وإلا فلا خير فيه ويحل به الموت فجأه وتختتم فرصة حياته بسلسله أحداث توبته القسريه ، وهم الذين وصف الله تعالى حقيقة سلوكهم بقوله : ( ولو ردوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ) .

بعض الاحباء والاصدقاء لم يفهموا مفهوم الصحبه والصداقه ولم يألفوا تطبيق آداب الصداقه ولكنهم يذكرون الاصدقاء بين الفينه والاخرى ثم يولوا الادبار فلا تعود  تقفو لهم أثراً ، يقول الشيطان : ما دمت لا تقوى على ترك المعاصي كم لك أن تتشبث بالتوبه ، لا تطرق بابها  ودع عنك هوس اللقاء بعد هذا ، ولكن افهم أن دق الباب هذا هو شرط اللقاء ، فلك أن تؤوب مهما أشحت بوجهك ، ففي مآبك تكمن الف إشاره وإشاره .

اسمع مني هذا الحديث :

قال رجل : يا رسول ! إني أذنبت .

فقال : استغفر الله .

فقال : إني أتوب ثم اعود .

فقال : كلما أذنبت استغفر .

فقال أذن تكثر ذنوبي .

فقال له : عفو الله أكثر فلا تزال تتوب حتى يكون الشيطان هو المدحور .

وقال : إن الله تعالى أفرح بتوبة العبد منه بنفسه ، وقد قال : ( أن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) .

 كما قال رسول الله " صل الله عليه واله " : ( ما من عبد أذنب ذنباً فقام وتطهر وصلى ركعتين واستغفر الله إلا غفر الله له ، وكان حقيقاً على الله أن يقبله لأنه سبحانه قال : ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً ) .

وقال : ( إن العبد ليذنب فيدخل به الجنه ، فقيل : كيف ذلك يا رسول الله " صل الله عليه واله " قال : يكون الذنب نصب عينيه لا يزال يستغفر منه ويندم عليه فيدخله الله به الجنه ، ولم أر أحسن من حسنه حدثت بعد ذنب  قديم إن الحسنات يذهبن السيئات ، ذلك ذكرى للذاكرين ) .

وماذا تتصور ؟ وهل للمريض المتهرب من الطبيب والدواء علاج وسبيل الى معاودة الصحه والسلامه ؟

وهل لك ان تكدس التلوثات على بعض على قدم وساق دون أن تكون بحاجه الى الاستحمام ؟ 

أخشى أن تتمادى في استزادة التلوث حتى تنظر الى نفسك فتفقدها وسط هذه التلوثات .

ألق نفسك في نهر التوبه واغتسل بمياهه المطهره لتتذوق الصفاء وتلتزم الوفاء فتتقصى غايتك وتهتدي لخالقك ، فللمخزين في ترعة التوبه طهر وشرف وانتقاء، وللمتدنسين في ضفاف نهرها نقاء .

فلو لم تكن قد عقدت النيه لخوض الرحله بعد ، تعمق في الحديث التالي : 

قال رسول الله " صل الله عليه واله " : ( إذا اذنب العبد ذنباً كان نكته سوداء على قلبه فإن هو تاب وأقلع واستغفر صفا قلبه منها ، وإن هو لم يتب ولم يستغفر كان الذنب على الذنب وذلك قوله : ( بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون  - يعني غطى - ) .

ايها العزيز : 

الى متى تسمح للقلب أن يستدرجك وراء هواه بلا هدى ونفسك  تموه لك أنك سالك على صراط مستقيم ، فاعلم أنك لن تنال من هذا الاهتداء رشاداً .

وكيف لك أن ترضى بترك مائدة الكريم متضوراً من الجوع ؟ أو أن تذهب الى ضفاف نهر عظيم فتعود ظمآناً ؟ 

عنقاء السعاده لا يزال يدعوك وأنت تسلم مقاليد سمعك لنعيق غربان نفسك ( إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ).

ايها العبد الآثم انت لست قدحاً تصدح فلا يبلغ ثمنه الأول إن جبر ، بل قدح تلوث وبالتوبه يعود لسابق عهده بل لأفضل من ذلك حيث قال رسول الله " صل الله عليه واله " : ( أن التائب حبيب الله وأن التائب عن الذنب كمن لم يذنب قط ) .

وجاء في حديث آخر أن الله عز وجل قال للنبي عيسى ابن مريم " عليه السلام " : 

( يا عيسى كم أطيل النظر وأحسن الطلب والقوم في غفله لا يرجعون تخرج الكلمه من أفواههم لا تعيها قلوبهم يتعرضون لمقتي ويتحببون بقربي الى المؤمنين ، يا عيسى ليكن لسانك في السر والعلانيه واحداً وكذلك فليكن قلبك وبصرك ، واطو قلبك ولسانك عن المحارم وكف بصرك عما لا خير فيه فكم من ناظر نظره قد زرعت في قلبه شهوه ووردت به موارد حياض الهلكه ، يا عيسى كن رحيماً مترحماً وكن كما تشاء أن يكون العباد لك وأكثر ذكرك الموت ومفارقة الأهلين ولا تله فإن اللهو يفسد صاحبه ولا تغفل فإن الغافل مني بعيد واذكرني بالصالحات حتى اذكرك ، يا عيسى تب الي بعد الذنب  وذكر بي الاوابين وآمن بي وتقرب بي المؤمنين ومرهم يدعوني معك وإياك ودعوت المظلوم فإني آليت على نفسي ان افتح لها باباً من السماء بالقبول وأن أجيبه ولو بعد حين ) .

استهوتك نفسك فتنكرت لحبه لك ، حري بك أن تتلقى من نفورك نفوراً وتتهاوى جراء طيشك في هاوية أحزانك وهمومك ،  وأي بلاء أعظم من مثل هذا السلوك الطائش .

تأمل سلوكك في لحظة خطيئتك رجحت مختاراً الهفوه على ما فرضه عليك أمراً ، كان يراقبك وانت تلج دياجير الإثم بإرادتك ، وهبك الثروات تنفذ بها تجارة ومعاملات ولكنك استغلتتها خلافاً لأمره في مشاغب ومتاهات وما زلت لم تقرر تدارك السيئات .

فيا ايها العزيز !! 

إن  توجهت الى الله سلوكاً ، أرفقني ننتقل بين المنازل صعوداً ، منازل تجعلك للقاء الحق أهلاً وتهديك السعاده أبداً ، فإن كانت لك في ذلك رغبه اتخذ نحوها هذه الخطوه ، فكيف لك ان تحل في ساحة قدسه  ضيفاً وأنت تراوح في مكانك عاجزاً ؟

فإن كنت مولهاً بلقائه ووصاله انفر مما قيل لك والتزم بما يليق بك ، اشدد للهمه حزاماً واسلك اليه طريقاً ، فلا بقاء لك في عتمة وادي الآثام والضلال ، شمسه أشرقت بنورها الوضاء وأنت ما زلت تغط في نومك وكأنك ارتضيت لنفسك الفناء .

والحمد لله رب العالمين  .



***********************


***********************

إرسال تعليق

التعليق على الموضوع :

أحدث أقدم