بسم الله الرحمن الرحيم اللهم
صل على محمد وال محمد
في تفسير قوله تعالى :
[ يا أيّها الذين آمنوا اتقوا الله وابتّغوا إليه الوسيله وجاهدوا في سبيله لعلّكم تفلحون ] .
عرف الامام المفسرّ في كتابه { مواهب الرحمن في تفسير القرآن } :
الوسيله : مادة ( وسل ) تدلّ على القرب ، والتوصّل الى أمر بشيء ، يقال وسل الى كذا ، أيّ : تقرب اليه بشيء ، والوسيله فعليه بمعنى : ما يتقرب به الى الله تعالى ويتوصّل اليه عزّ وجل ، من ترك المعاصي وفعل الطاعات مع الرغبه الى من يتقرّب به .
وفي البحث العرفاني اللاحق للآيه الكريمه ، ذكر الامام المفسّر أنّ أمر سبحانه بابتغاء الوسيله اليه عزّ وجلّ ، واتّخاذه عزّ وجلّ مطلباً حقيقياً ، والإعراض عن غيره ، ولأهمية ابتغاء الوسيله في شؤن العبد ، فقد حفّه تبارك وتعالى بأمرين مهمّين لهما الأثر العظيم في تحقّقه على الوجه المطلوب ، وترتّب الأثر عليه وهما : التقوى ، والجهاد في سبيله تعالى ، ولا ريب في أنّ الاستكمال وطلب الزلفى لديه عزّ وجلّ إنّما يصحّ بعد تزكية النفس أوّلاً من رذائل الصفات وذمائم الأخلاق ، فإنّها من أقوى الحجب الظلمانيّه المانعه من الكمال والاستكمال ، ثمّ تحلية الأخلاق بالصفات الحميده والأخلاق المرضيه ليتحقّق القرب والاستعداد ، وأخيراً أمر عزّ وجلّ بالجهاد في سبيله ، فإنّ الوصول الى تلك المرتبه لا يكون بسهوله ويسر وإنّما يحتاج الى جهاد وصبر ومثابره .
ولعلّ الآيه الشريفه ترشد الى أنّ المؤمن لا بدّ له من مراحل ثلاث : [ شريعه ، وحقيقه ، وفيض ] فإذا تحمّل بالشريعه وتوجّه الى الله تعالى بابتغاء الوسيله ، اشتاقت نفسه الى حضرة الملك ، وتغلب عليها الشوق بالتوجه إليه عزّ وجلّ فيشتغل بمجاهدت النفس ومحاسبتها .
ويبيّن الامام المفسر منازل مجاهدة النفس مؤكداً أن أوّل المنازل هو ترك الدنيا والعزوف عن زخرفها وزبرجها ، ثمّ إسقاط جميع الروابط بمخالفة الهوى والاشتغال بالتوجّه إليه عزّ وجلّ ، فمن خرق عوائد نفسه تحقّق سيره ووصوله ويعرف ذلك بحبّ الله تعالى وابتغاء الوسيله إليه وجعله شغله الشاغل ، فإذا جاهد الانسان نفسه حتّى هذّبها وأظهرها من الحجب والموانع ، رجعت نفسه الى أصلها وهو الحضره التي كانت فيها ، فإنّه لم يكن بينها وبين محلّها إلأ الحجب الظلمانيّه ، فإذا تخلّصت عادت الى محلّها الأرفع ، ولعلّ هذا هو الفلاح الذي وعد عزّ وجلّ السالكين في طريق الحقيقه ، والسائرين بنور معرفته ، فإنّ الروح مهما تطهّرت وصفت من كدرات الحسّ عرجت الى عالم الجبروت فلم يحجبها عن خالقها شيء .
فالآيه الشريفه تبيّن الأثر العظيم لابتغاء الوسيله ، ومنها يظهر أنّ المجاهده إنّما تكون بعد التوسّل بالوسيله ، وأما قبله فلا سبيل له حتّى يجاهد ، ولعلّه لذلك عقّب عزّ وجلّ على ذلك بأنّ الخروج عن تلك التعليمات كفر ، ومن يتبع غير ذلك السبيل لا يمكنه الوصول الى تلك المقامات مهما حاول وبذل كلّ ما في وسعه ، فإنّه لا يزيده إلأ بعداً وحجاباً [ ما تقبّل منهم ] فإنّ القبول إنّما ينحصر طريقه في ما ذكره عزّ وجلّ .
وأشار الامام المفسّرالى أنّ للإيمان آثار أهمّها : [ الزجر ، والجذب ] .
امّا الزجر : فهو الانتهاء عمّا يدعوا اليه الشيطان من الأعمال القبيحه ، والعقائد الفاسده ، والأخلاق الرذيله التي تعوق رقي المؤمن بالتقرب اليه تعالى ، كالرياء ، والعجب ، والبخلوغيرها ، وكذا الأعمال التي فيها الفساد - اجتماعيّاً كان أو شخصيّاً - كهتك الأعراض ، وسلب الأموال ، وإراقة الدماء من غير وجه شرعي ، وكذا الأخلاق الرذيله ، كالكبر والأنانيّه وغيرها ، فإنّ المرحله الأولى من توجّه النفس وتربيتها ، تتوقّف على ترك تلك الأعمال القبيحه وطرد تلك العقائد الفاسده والبعد من الأخلاق الرذيله ، ولذلك عبّر القرآن الكريم في القتل [ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلأ خطأّ ] .
لأنّ الإيمان به تعالى بنفسه زاجر عن القتل العمدي فلا يليق بحال المؤمن أن يقتل مؤمناً ، وإذا عرض له قتل المؤمن من باب الاتّفاق - أي الخطأ - لأن الانسان مجبول على أن يكون محلاً لعروض الخطأ يتداركه بالكفّار التي هي نوع من العقوبه لما حصل له من التقصير بترك الاحتياط الذي صار سبباً لفقد حياة فرد من أفراد المجتمع ، فيكون بذل المال بالتحرير نوعاً من تربية النفس وتوجّهها اليه عزّ وجل فإنّ لم يجد ذلك ولا يمكنه نيل هذه المرتبه من التزكيه ، فلا أقل من ترك الدنيا والتوجه اليه جلّ شأنه بالصوم ايذوق وبال خطيئته قال تعالى [ فلا اقتحم العقبه * وما أدراك ما العقبه * فك رقبه * أو إطعام في يوم ذي مسغبه ] .
ولذا قال علماء السير والسلوك : إنّ أوّل قدم السالك أن يخرج من الدنيا وما فيها وثانيه أن يخرج من النفس وصفاتها .
وأمّا الجذب : فهو قابلية نيل المقامات التي تحصل بها العبوديّه المحضه ومنتهى التقرّب اليه - جلت عظمته - بل الفناء في سبيله الذي يتحقّق بالخلع عمّا سواه تعالى ، ولهما مراتب كثيره جداً ، ولكلّ مرتبه منها درجات حتّى تحصل المثليّه كما في بعض الروايات الوارده في النوافل .
وبهما [ الزجر والجذب ] يتمّ الإيمان ، وفي الزجر وحده لا يتحقّق الإيمان وإن كان ذلك حسناً ، فإن ترك القتل حياء أو للقوانين الوضعيّه في حدّ نفسه حسن ، ولكن لا يترتّب عليه الأثر المترتّب على الإيمان ، وكذا البعد من الصفات الذميمه أو التخّلق بالأخلاق الحسنه لو حصلا من الكافر ، فلإنّه في حدّ نفسه حسن وقد يترتّب عليه الآثار الوضعيّه ، ولكن الأثر الخاص المنبعث من الإيمان بالله تعالى لا يترتّب عليه .
في بعض الأحكام الفرعيه العمليه التي هي من الكمالات الإنسانيه والعمل بها يوجب الاستعداد والتهيؤ لتلقي الفيوضات الربانيه وتصفية النفس من الكدورات والرذائل المعنويه والظاهريه ، إلا أنها تهدف الى أعداد المؤمن علمياً وعملياً وجعله في مسيره الاستكمالي حتى بعد الموت .
وفرق الامام المفسّر بين الآثار المترتبه على علمي : الفقه ، والتوحيد ، فأكّد أن الأحكام الإلهيه العمليه محدوده بحياة الانسان المكلف وتنقطع بعد موته ، ولكن الذي يفيد بعد ذلك هو صفاء النفس وكمالها ونورها التي اكتسبها الانسان من جهده العملي في دار التكليف على وفق الشريعه الإلهيه ، فظرف علم الفقه والتكليف أنما هو هذه الحياة الفانيه والذي يفيد بعدها في الآخره ، هو علم التوحيد المكتسب من المجاهدات واليسير الى الله تعالى على وفق الشريعه والعمل بالتكاليف الربانيه ، وما سوى ذلك إنما هو سراب بقيعه يحسبه الضمآن ماء ، فقد يستنشق الريح الطيب ، ويرشف من الماء الزلال ، لكن ما ينقطع ويرجع الى الله تعالى ، فإن لم يقدم ذلك العلم النافع الذي يدرجه في مقامات السالكين العاليه يكون حائراً فلابد من الإيمان والعمل على وفقه ، ولذا ترى أن الآيات الشريفه الوارده في بيان الأحكام لا تخلوا من الإرشارات والرموز التي لا يفهمها إلا أهلها ليدرك الانسان مدى العلمين والطريقين ، فإن أحدهما مكمل للآخر .
ووقف الامام المفسّر عند تصدير الخطاب ب [ يا أيّها الذين آمنوا ] وهو الخطاب الربوبيّ المشتمل على كمال العنايه والمحبه التي من دونها لا يمكن السير والسلوك ، فإن الإيمان هو الحبل الذي يشد الانسان بخالقه ، ويربطه ببقية الموجدات ، وفيه سمو المعنى ، مالا يمكن أن يوجد أي مقوله أخرى ، وفيه ذلك الارتباط الوثيق بين المحبوب وحبيبه .
وفي دور علم الشريعه بإذكاء جذوة حب الله في نفس المؤمن يرى الامام المفسّر أنّ الحبّ هو أساس الشدّ والربط في هذا المجال ، وإن العشق الإلهي هو الغايه التي يصبوا اليها السالكون والسائرون الى الله ، وعلم الشريعه يبيّن هذا العشق الدفين في كل شيء ويزكيه وينميه حتى يستوعب جميع المشاعر والأعمال ، فيصير السالك والسائر كالمتيم الواله الذي لا شغل له إلا الوصول الى محبوبه والارتشاف من وجوده ورؤيته .
ويصف الامام المفسّر علم التوحيد بأنه الغايه من جميع العلوم ، والنافع في جميع العوالم ولاسيما بعد الموت بعد انقطاع الآمال ، وبه يبقى الفرد حيا وإن غاب شخصه ولم يخطر ببال أحد ، فمن سار في هذا الطريق كان الفناء والموت ، قنطره يعبر بها من عالم الماده الى عالم الأشباح والأظله ، ثم الى العوالم الأخرى بحسب درجته ومجاهداته في دار الدنيا والتكاليف والعناء .
ولعل قوله تعالى : [ واتّقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ] .
إرشاد الى ما ذكرنا ، فإذا كان الفرد مؤمناً ، وأراد السير الى الله والوصول الى قربه ، فلا يمكن أن يكون إلا بالعبور على هذه القنطره ، مع الزاد والراحله اللذين هما العمل بالشريعه الغراء ، وعدم تحريم ما بيّنه الله من التكاليف التي هي من الطيبات التي يجعل العمل بها الانسان طيباً فتطيب بها نفسه وعمله وقلبه ونواياه ، فتشير الآيه الكريمه الى توبيخ هذا الانسان الغافل الذي يريد الطيبات بمقتضى فطرته ، ولكنه لا يعرف أن الطيبات كامنه في التعاليم الربانيه والتكاليف الإلهيه التي يحرر نفسه من قيود النفس الأماره والملكات السيئه ، وحرمان نفسه منها من الاعتداء الشديد الممقوت عند ربّ العالمين .
ويعود الامام المفسّرمؤكداً ضرورة الجمع بين العلم والعمل ، فيجب العلم بالشريعه ، والأكل من طيباتها ، ومعرفة خصوصياتها وتعلم المعارفه الحقه ، وما يقوي القلب والنفس في سلوكه الى الله عزّ وجلّ ، ليكون على بينه من التقوى التي هي العروه الوثقى والحبل الذي يجب الاعتصام به .
والحمد لله رب العالمين .
صل على محمد وال محمد
ابتغاء الوسيله
في تفسير قوله تعالى :
[ يا أيّها الذين آمنوا اتقوا الله وابتّغوا إليه الوسيله وجاهدوا في سبيله لعلّكم تفلحون ] .
عرف الامام المفسرّ في كتابه { مواهب الرحمن في تفسير القرآن } :
الوسيله : مادة ( وسل ) تدلّ على القرب ، والتوصّل الى أمر بشيء ، يقال وسل الى كذا ، أيّ : تقرب اليه بشيء ، والوسيله فعليه بمعنى : ما يتقرب به الى الله تعالى ويتوصّل اليه عزّ وجل ، من ترك المعاصي وفعل الطاعات مع الرغبه الى من يتقرّب به .
وفي البحث العرفاني اللاحق للآيه الكريمه ، ذكر الامام المفسّر أنّ أمر سبحانه بابتغاء الوسيله اليه عزّ وجلّ ، واتّخاذه عزّ وجلّ مطلباً حقيقياً ، والإعراض عن غيره ، ولأهمية ابتغاء الوسيله في شؤن العبد ، فقد حفّه تبارك وتعالى بأمرين مهمّين لهما الأثر العظيم في تحقّقه على الوجه المطلوب ، وترتّب الأثر عليه وهما : التقوى ، والجهاد في سبيله تعالى ، ولا ريب في أنّ الاستكمال وطلب الزلفى لديه عزّ وجلّ إنّما يصحّ بعد تزكية النفس أوّلاً من رذائل الصفات وذمائم الأخلاق ، فإنّها من أقوى الحجب الظلمانيّه المانعه من الكمال والاستكمال ، ثمّ تحلية الأخلاق بالصفات الحميده والأخلاق المرضيه ليتحقّق القرب والاستعداد ، وأخيراً أمر عزّ وجلّ بالجهاد في سبيله ، فإنّ الوصول الى تلك المرتبه لا يكون بسهوله ويسر وإنّما يحتاج الى جهاد وصبر ومثابره .
ولعلّ الآيه الشريفه ترشد الى أنّ المؤمن لا بدّ له من مراحل ثلاث : [ شريعه ، وحقيقه ، وفيض ] فإذا تحمّل بالشريعه وتوجّه الى الله تعالى بابتغاء الوسيله ، اشتاقت نفسه الى حضرة الملك ، وتغلب عليها الشوق بالتوجه إليه عزّ وجلّ فيشتغل بمجاهدت النفس ومحاسبتها .
ويبيّن الامام المفسر منازل مجاهدة النفس مؤكداً أن أوّل المنازل هو ترك الدنيا والعزوف عن زخرفها وزبرجها ، ثمّ إسقاط جميع الروابط بمخالفة الهوى والاشتغال بالتوجّه إليه عزّ وجلّ ، فمن خرق عوائد نفسه تحقّق سيره ووصوله ويعرف ذلك بحبّ الله تعالى وابتغاء الوسيله إليه وجعله شغله الشاغل ، فإذا جاهد الانسان نفسه حتّى هذّبها وأظهرها من الحجب والموانع ، رجعت نفسه الى أصلها وهو الحضره التي كانت فيها ، فإنّه لم يكن بينها وبين محلّها إلأ الحجب الظلمانيّه ، فإذا تخلّصت عادت الى محلّها الأرفع ، ولعلّ هذا هو الفلاح الذي وعد عزّ وجلّ السالكين في طريق الحقيقه ، والسائرين بنور معرفته ، فإنّ الروح مهما تطهّرت وصفت من كدرات الحسّ عرجت الى عالم الجبروت فلم يحجبها عن خالقها شيء .
فالآيه الشريفه تبيّن الأثر العظيم لابتغاء الوسيله ، ومنها يظهر أنّ المجاهده إنّما تكون بعد التوسّل بالوسيله ، وأما قبله فلا سبيل له حتّى يجاهد ، ولعلّه لذلك عقّب عزّ وجلّ على ذلك بأنّ الخروج عن تلك التعليمات كفر ، ومن يتبع غير ذلك السبيل لا يمكنه الوصول الى تلك المقامات مهما حاول وبذل كلّ ما في وسعه ، فإنّه لا يزيده إلأ بعداً وحجاباً [ ما تقبّل منهم ] فإنّ القبول إنّما ينحصر طريقه في ما ذكره عزّ وجلّ .
وأشار الامام المفسّرالى أنّ للإيمان آثار أهمّها : [ الزجر ، والجذب ] .
امّا الزجر : فهو الانتهاء عمّا يدعوا اليه الشيطان من الأعمال القبيحه ، والعقائد الفاسده ، والأخلاق الرذيله التي تعوق رقي المؤمن بالتقرب اليه تعالى ، كالرياء ، والعجب ، والبخلوغيرها ، وكذا الأعمال التي فيها الفساد - اجتماعيّاً كان أو شخصيّاً - كهتك الأعراض ، وسلب الأموال ، وإراقة الدماء من غير وجه شرعي ، وكذا الأخلاق الرذيله ، كالكبر والأنانيّه وغيرها ، فإنّ المرحله الأولى من توجّه النفس وتربيتها ، تتوقّف على ترك تلك الأعمال القبيحه وطرد تلك العقائد الفاسده والبعد من الأخلاق الرذيله ، ولذلك عبّر القرآن الكريم في القتل [ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلأ خطأّ ] .
لأنّ الإيمان به تعالى بنفسه زاجر عن القتل العمدي فلا يليق بحال المؤمن أن يقتل مؤمناً ، وإذا عرض له قتل المؤمن من باب الاتّفاق - أي الخطأ - لأن الانسان مجبول على أن يكون محلاً لعروض الخطأ يتداركه بالكفّار التي هي نوع من العقوبه لما حصل له من التقصير بترك الاحتياط الذي صار سبباً لفقد حياة فرد من أفراد المجتمع ، فيكون بذل المال بالتحرير نوعاً من تربية النفس وتوجّهها اليه عزّ وجل فإنّ لم يجد ذلك ولا يمكنه نيل هذه المرتبه من التزكيه ، فلا أقل من ترك الدنيا والتوجه اليه جلّ شأنه بالصوم ايذوق وبال خطيئته قال تعالى [ فلا اقتحم العقبه * وما أدراك ما العقبه * فك رقبه * أو إطعام في يوم ذي مسغبه ] .
ولذا قال علماء السير والسلوك : إنّ أوّل قدم السالك أن يخرج من الدنيا وما فيها وثانيه أن يخرج من النفس وصفاتها .
وأمّا الجذب : فهو قابلية نيل المقامات التي تحصل بها العبوديّه المحضه ومنتهى التقرّب اليه - جلت عظمته - بل الفناء في سبيله الذي يتحقّق بالخلع عمّا سواه تعالى ، ولهما مراتب كثيره جداً ، ولكلّ مرتبه منها درجات حتّى تحصل المثليّه كما في بعض الروايات الوارده في النوافل .
وبهما [ الزجر والجذب ] يتمّ الإيمان ، وفي الزجر وحده لا يتحقّق الإيمان وإن كان ذلك حسناً ، فإن ترك القتل حياء أو للقوانين الوضعيّه في حدّ نفسه حسن ، ولكن لا يترتّب عليه الأثر المترتّب على الإيمان ، وكذا البعد من الصفات الذميمه أو التخّلق بالأخلاق الحسنه لو حصلا من الكافر ، فلإنّه في حدّ نفسه حسن وقد يترتّب عليه الآثار الوضعيّه ، ولكن الأثر الخاص المنبعث من الإيمان بالله تعالى لا يترتّب عليه .
في بعض الأحكام الفرعيه العمليه التي هي من الكمالات الإنسانيه والعمل بها يوجب الاستعداد والتهيؤ لتلقي الفيوضات الربانيه وتصفية النفس من الكدورات والرذائل المعنويه والظاهريه ، إلا أنها تهدف الى أعداد المؤمن علمياً وعملياً وجعله في مسيره الاستكمالي حتى بعد الموت .
وفرق الامام المفسّر بين الآثار المترتبه على علمي : الفقه ، والتوحيد ، فأكّد أن الأحكام الإلهيه العمليه محدوده بحياة الانسان المكلف وتنقطع بعد موته ، ولكن الذي يفيد بعد ذلك هو صفاء النفس وكمالها ونورها التي اكتسبها الانسان من جهده العملي في دار التكليف على وفق الشريعه الإلهيه ، فظرف علم الفقه والتكليف أنما هو هذه الحياة الفانيه والذي يفيد بعدها في الآخره ، هو علم التوحيد المكتسب من المجاهدات واليسير الى الله تعالى على وفق الشريعه والعمل بالتكاليف الربانيه ، وما سوى ذلك إنما هو سراب بقيعه يحسبه الضمآن ماء ، فقد يستنشق الريح الطيب ، ويرشف من الماء الزلال ، لكن ما ينقطع ويرجع الى الله تعالى ، فإن لم يقدم ذلك العلم النافع الذي يدرجه في مقامات السالكين العاليه يكون حائراً فلابد من الإيمان والعمل على وفقه ، ولذا ترى أن الآيات الشريفه الوارده في بيان الأحكام لا تخلوا من الإرشارات والرموز التي لا يفهمها إلا أهلها ليدرك الانسان مدى العلمين والطريقين ، فإن أحدهما مكمل للآخر .
ووقف الامام المفسّر عند تصدير الخطاب ب [ يا أيّها الذين آمنوا ] وهو الخطاب الربوبيّ المشتمل على كمال العنايه والمحبه التي من دونها لا يمكن السير والسلوك ، فإن الإيمان هو الحبل الذي يشد الانسان بخالقه ، ويربطه ببقية الموجدات ، وفيه سمو المعنى ، مالا يمكن أن يوجد أي مقوله أخرى ، وفيه ذلك الارتباط الوثيق بين المحبوب وحبيبه .
وفي دور علم الشريعه بإذكاء جذوة حب الله في نفس المؤمن يرى الامام المفسّر أنّ الحبّ هو أساس الشدّ والربط في هذا المجال ، وإن العشق الإلهي هو الغايه التي يصبوا اليها السالكون والسائرون الى الله ، وعلم الشريعه يبيّن هذا العشق الدفين في كل شيء ويزكيه وينميه حتى يستوعب جميع المشاعر والأعمال ، فيصير السالك والسائر كالمتيم الواله الذي لا شغل له إلا الوصول الى محبوبه والارتشاف من وجوده ورؤيته .
ويصف الامام المفسّر علم التوحيد بأنه الغايه من جميع العلوم ، والنافع في جميع العوالم ولاسيما بعد الموت بعد انقطاع الآمال ، وبه يبقى الفرد حيا وإن غاب شخصه ولم يخطر ببال أحد ، فمن سار في هذا الطريق كان الفناء والموت ، قنطره يعبر بها من عالم الماده الى عالم الأشباح والأظله ، ثم الى العوالم الأخرى بحسب درجته ومجاهداته في دار الدنيا والتكاليف والعناء .
ولعل قوله تعالى : [ واتّقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ] .
إرشاد الى ما ذكرنا ، فإذا كان الفرد مؤمناً ، وأراد السير الى الله والوصول الى قربه ، فلا يمكن أن يكون إلا بالعبور على هذه القنطره ، مع الزاد والراحله اللذين هما العمل بالشريعه الغراء ، وعدم تحريم ما بيّنه الله من التكاليف التي هي من الطيبات التي يجعل العمل بها الانسان طيباً فتطيب بها نفسه وعمله وقلبه ونواياه ، فتشير الآيه الكريمه الى توبيخ هذا الانسان الغافل الذي يريد الطيبات بمقتضى فطرته ، ولكنه لا يعرف أن الطيبات كامنه في التعاليم الربانيه والتكاليف الإلهيه التي يحرر نفسه من قيود النفس الأماره والملكات السيئه ، وحرمان نفسه منها من الاعتداء الشديد الممقوت عند ربّ العالمين .
ويعود الامام المفسّرمؤكداً ضرورة الجمع بين العلم والعمل ، فيجب العلم بالشريعه ، والأكل من طيباتها ، ومعرفة خصوصياتها وتعلم المعارفه الحقه ، وما يقوي القلب والنفس في سلوكه الى الله عزّ وجلّ ، ليكون على بينه من التقوى التي هي العروه الوثقى والحبل الذي يجب الاعتصام به .
والحمد لله رب العالمين .
إرسال تعليق
التعليق على الموضوع :