الحجب الظلمانيه المانعه

بسم الله الرحمن الرحيم
 اللهم صل على محمد وال محمد


الحجب الظلمانيه المانعه

قال تعالى :

ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ۚ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ۚ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (66) لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ۚ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)

تحدث الامام المفسر في كتابه ( مواهب الرحمن في تفسير القرآن ) عن الحجب الظلمانيه المانعه من الوصول الى الله تعالى فقال : 
الآيات المتقدمه هي من أهم الآيات التي تستحق التوقف عندها ، والتمعن في دلائلها ومضامينها ، وهي تتضمن الحجب الظلمانيه ، والغواشي المانعه التي اوجبت احتجاب الولي ، وعدم امكان الوصول اليه ، وجعلته يصرف عن الناس والمسلمين ، وهي تدعوا السالكين الى التوقف عند احوال النفس والالتفاف اليها ، فانها السبيل الوحيد للدخول في الحريم والوصول الى المقامات ، 
فاذا تراكمت عليها الغواشي ووقع السالك في الحجب من الصفات التي تطرأ على القلب ، فمن الذي ينجيهم منها ؟ 
فلابد من الرجوع  الى الله تعالى ، والخضوع له والخشوع لديه لكشفها فانها من اشد الموانع واكبر العوائق ، متضرعين ومظهرين شدّة الفقر والحاجه لدى جنابه عزّ وجلّ  ، ملتزمين اشد الآداب في دعواتهم ، طوراً معلنين ، وآخر مسرين ، فانهما حالتان تعرضان على الداعي عند الضراعه والدعاء كل في موطنه ، فانه مواقف مع ربّه في دعائه  ، وحالات في  سؤاله ومسكنته ، ولابد من التماسها رجاء استجابة المدعوّ لدعائه ، فان السفر طويل  ، والمشاق كثيره ،  والظلمات متعدده .
والحجب الظلمانيه على ثلاث اقسام : 
الاول :  في نفس السالك .
الثاني :  في الطريق المسلوك .
الثالث :  في النيات والقلوب .
وهذه الحجب الظلمانيه هي التي جعلت صاحبها غير مؤهل لتلقي الخطاب الربوبي ، فكان الخطاب لسيد الخلائق ، وإمام أرباب القلوب  ، وقائد السالكين ، ووليهم ، ليخبرهم بما هم عليه ليتنبهوا ويدعوا الله تعالى بما هو الحقّ ، لينجيهم منها بأنوار التجليات ، وليكشف الظلمات ، ويزيل الغواشي .
ويذكر الامام المفسر أنّ الدعاء والتوجه اليه عزّ وجلّ لا يكفي ، بل لا بد للداعي من الثبات على ذلك  ، فيتعهد بالشكر على نعمة الإنجاء بالاستقامه  والتمكن  ، فضلاً عن الطاعه ، وترك المعصيه ، فاذا تحقق الشرط وظهرت القابليه تحققت النجاة منها ،  بل من كل كرب يطرأ على السالك المجذوب ، فإنه في كل آن يخاف الوقوع في الخلاف ، والطرد عن الباب ، فإن النفس أمّاره ، بل غداره ، تبطن الشيء المخالف ولا تظهره سنين متماديه ،  وهم قد اعترفوا بذلك فأعطوا العهد على المدوامه على الشكر ، والاستقامه على الطاعه ، ونبذ العصيان .
ويشير الامام المفسر الى الحجب الظلمانيه المتأتيه من شرك النيه ، مفسراً به قوله تعالى : 
{  قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ  } واصفاً آثار ذلك قائلاً : 
( ولكنهم لم يخلصوا من شرك النيه ، فوقعوا في مزالق الاقدام ، وظهرت بواطن الكفر والعصيان ، وتمكنت فيهم الأهواء والرجوع الى الأنانيه البغيضه التي توقع النفس في الهاويه ، فحينئذ لا يقدر احدهم أن يفقه ما يجري عليه ، وما يريده الله منه ، فيختلط عليه الامر ويلتبس عليه الحقّ  بمنازعات النفس .، ويستحق انواع الحرمان وهو من اشد العذاب على السالك ، اذ يبتلى بعذاب من فوقه فيحجب عن النظر في الملكوت بالحجب الروحانيه ، او من تحت ارجله بأن لا يقوم بالوفاء بعهود العبوديه ، ولا يسهل عليه القيام على باب الربوبيه ، فيحجب بالحجب الطبيعيه ) .
ويقف الامام المفسر عند أشد البلايا عليهم وهي فقد الامام فيقول :
ومن شدة البلايا على من هم كذلك أنهم فقدوا الامام الذي يرجعون اليه في الهدايه عند شدة البلاء ، وحرموا من يتولى أمورهم ، فدّب الخلاف بينهم فكانوا أحزاباً متشتتين ، وشيعاً مختلفين ليس لهم امام يهتدون به الذي هو من اعظم النعم ، فإن به يتقربون الى الله تعالى وهو الذي يبعدهم عن الشيطان والعصيان ، فمن اختلاط أمرهم أن ظهر فيهم مدعون زائفون ، كل منهم يثبت لنفسه مقام الولايه فيوقع  بينهم الخصام ، ويتحقق قتل النفس بالأوهام الذي هو أشد من القتل الظاهري  لأنها السبيل في  السير والسلوك  ، ونيل المقصود ، فإذا قتل بالمنازعات ، والدخول في انواع المخاصمات ، ووقع صاحبها في الاوهام والخيالات ، واحتجب عن الحق ، واختفت الحقيقه ، فما يبقى للانسان الا أن يكون كالأنعام ، ولعله من أجل حكم عليهم سبحانه في هذه الآيات بالفقه والتدبر ، والرجوع  الى الحقّ ، والتماس الحقيقه ، وإلا كانوا  كانوا كالأنعام ، فقال عز اسمه : { لعلهم يفقهون } وعندما تظهر سورة النفس الحيوانيه ويختفي الجانب المعنوي وهي  من الحقائق التي لا لبس فيها ، وكانت من الأنباء التي اخبر بها القرآن  ووقعت في مجتمع الانسان ، ولا سيما من دخل في الاسلام الذي كان جديراً به أن يكون مستسلماً لربه ، وسلماً  لإخوانه ، وهو لم يستفد من هذه النعمه الجليله ، وأعرض عن الطاعه ، وكذب بالحق الذي أمر به بجميع مظاهره ، وحرم نفسه من أعظم النعم وهو الانتماء الى رفقة محمد " صل الله عليه واله " ، فلم يجعله إماماً لنفسه يقتدي به ، ويهتدي بنوره ، وحرم نفسه من دعائه وشفاعته .
ويختم الامام المفسر بحثه بالقول :
وهذه الآيه الكريمه شديدة على المسلمين إذا فقهوا مضمونها والتفتوا الى معانيها ، من عطفه ورأفته وهو الذي أرسله الله رحمه للعالمين ، فضلاً عن أنهم فقدوا إماماً يقتدون به في الظلمات التي تحيط بالانسان من جميع جوانبه ، وعدلوا عن ولي لهم ينير الدرب ، ويهديهم لمعرفة نواقص النفس ليرفعوا بها الحجب المانعه عن الوصول الى المقامات العاليه ، فقد ركنوا الى الدنيا واستبدلوا الخسيس الادنى بما كان سبب للنجاة ، والوصول الى المقام الاعلى ، فكان التهديد عظيماً منه عزّ وجلّ : { وسوف تعلمون } حين يكشف عنكم الحجب ، وتنقشع عنكم الغواشي ، أعاذنا الله تعالى منها فإنها مهلكات .
وفي البحث العرفاني اللاحق لتفسير قوله تعالى :
{ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ ۖ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ  } .
أنّ الآيات الشريفه تبين العقبات في الطريق  ،  والحجب الظلمانيه في النفس ، والموانع في طريق الاستكمال ، وتذكر السالكين بمواضع الضعف في النفوس ، لينتبه السالك لها فيصلحها .
وأول ما وقف الامام المفسر من الحجب الظلمانيه الذي يوجب الابتعاد عن الله تبارك وتعالى هو سبّ  الإله المعبود ، معللاً ابتداء الله سبحانه به بأمرين :
الأول : وخامة الآثار المترتبه عليه ، وأهمها أنه يجعل الساب في عداد الجاهلين ، ويزيد في الاستكبار على الحقّ ، والازدراء ، والإهانه لأولياء الله ومقدسات الدين القويم .
الثاني : أن السبّ يكشف عن الغيظ ، والغضب الكامن في القلوب ، وهما من مفاسد الأخلاق ، ومن العقبات الرئيسه في هذا المسير التكاملي للوصول الى المعرفه الكامله ، فإنه إن لم يعالج في إزالتها ربما يؤدي الى النفاق والكفر وهما خلاف العبوديه وكفران لأنعمه تبارك وتعالى ، وهو من أشد الذنبوب  وأسرعها تأثيراً .
ويمضي الامام المفسر متحدثاً عن استعدادات النفوس محذراً من خطرين :
الأول : الإعراض عن نعم الله تعالى ، وطمس نوره الذي منحنا إياه .
الثاني : الإعراض عن آياته سبحانه الظاهره ، وطلب المزيد فإنه من التدخل في شؤون الربّ العظيم .
فقال : فقد منّ خالق النفوس ، أن أودع فيها من الاستعداد لنيل الكمالات والقابليات لاقتناص الخيرات ، فزين لنا الاعمال مطلقاً : الخير ، والشر ، فيطلب كل واحد منّا ما فيه من الاستعداد الأزلي ، فإذا كان  المطلوب هو الذي أفاض علينا تلك النّعم المتوارده بألسنة الاستعداد ، كان المطلب عظيماً ، ومن شأنه عزّ وجلّ أن لا يردّ طالباً ، فمن الجهاله بمكان أن نعرض عن هذه المنحه الربّانيه ونطمس هذا النور بمفاسد الأخلاق ، او أن نوجد في هذا الطريق موانع وعقبات .
وذكر الامام المفسر عدداً من الموانع فقال : والشيطان إنما يتسلط على ابن آدم من جهة النظر ، والكلام ، والطعام ، والمخالطه لما فيها من الموانع ، إلا من يذكرهم  الله برؤيته ، فالتوعد شديد ، والعاقبه سيئه ، فليرضوا الشيطان بمحبتهم إياه ، وليقترفوا ما م مقترفون ، فإن نفوسهم محجوبه بسبب ما اقترفوا ، فتراكمت الحجب ، وارتكزت الموانع في جميع مشاعرهم ، وثبت الجهل في مشاعرهم ، وثبت الجهل في شعورهم ، وكلها من أشد الحجب ، فلابد للسالك ملاحظة تلك الدقائق ، فإن لها التأثير الكبير في التخليه والتزكيه اللتين هما بمنزلة جناحي السالك العارف يطير بهما في سماء الكمال .
ويحذر الامام المفسر أرباب السير والسلوك من الوقوع في شرك الشيطان ، فإن الشياطين يحومون حولهم فيحجبونهم بالظاهر عن الباطن ، ويجادلون بالقاء الوساوس في النفوس ، فقد يركنون اليهم ، فيصبحون من اولياء الشيطان الذي من اطاعه كان من المشركين ، ويتركون ما هم عليه من التوحيد وذلك هو الخسران المبين .
ويميّز الامام المفسر بين نوعين من التقليد :
تقليد أهل الله ، وتقليد أهل الضلالات فيقول :  والتقليد لأهل الله صحيح ويرشد اليه العقل الصحيح والنقل الصريح ، وهو يهدي الى الرشاد وهو غير التقليد لأصحاب الضلالات ، فإن المناط هو الحق واليقين دون الباطل والتخمين .
ووقف الامام المفسر عند أهم الحجب التي تمنع الوصول الى الكمال والفوز بالقرب والوصال ، وهو الاثم في جميع مظاهره من ، الأقوال ، والأفعال ، والأسرار ، والأعلان ، والجوارح ، والجوانح ، فيشمل العقائد الفاسده والنوايا الرديئه فان المقام عظيم والمنال كبير فلابد من المراقبه وترك الغفله التي تحصل من المعاصي ، وسكون القلب الى الأهواء ، بل يرتقي عند الله تعالى الى حبّ الجنه ، فان كل ذلك ممّا يشغل عن الحق ويعدّون كلّ ما يشغل عنه سبحانه من الإثم .
 وقد خاطب سبحانه رسوله الكريم " صل الله عليه واله " بهذه الحقيقه ، لأنه الفصل في هذا الامر السشامي ، والحكم الذي يجب تلاقتداء به في هذا السبيل ، وهو العالم بحقائق نفوس السالكين ، ومقدار استعداداتهم  وقابليتهم لتلقي الفيض الذي لم ينزل إلا بشفاعته " صل الله عليه واله " ، فهو الكلمه الإلهيه التي تمت صدقاً وعدلاً والذي أنزل عليه القرآن المجيد وهو الأساس في كل كمال ، فاقترنا فبلغ قاب قوسين أو أدنى ، ومن يقرّ بهما ويتخذهما  حكماً ينجذب اليهما ويرى في  نفسه نوراً يمشي به هذا السالك ، فيعمل بما ورد في القرآن ويهتدي بسيرة سيد رسل الله تعالى وإمام العارفين ، فيبلغ الدرجات العليا من العلم والعرفان، وأقصى مراتب الايمان فيكون إنساناً كاملاً ، ويصير كلمة صدق وعدل ، ولا ريب في أن الصدق يهدي الى الجنه ، والعدل ينال به القربه والوصال ، وكلما زاد السالك في التقرب اليهما يصل الى مواطن الضعف في النفس ، ويهتدي الى  إصلاحها ، فيزيد في هديه حتى يكون مسيره الابدي ، فيتطابق الأزل والأبد في الهدى الى الله سبحانه ، ومن أعرض عن هذه الحقيقه فلن يصل الى غايه أبداً ويضل الطريق ثم يهوى .
والحمد لله رب العالمين 

***********************


***********************

إرسال تعليق

التعليق على الموضوع :

أحدث أقدم