وصيّة الشهيد الثاني رحمه الله /1

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد

مسجد الشهيد الثاني و بيته في لبنان


وصية الشهيد الثاني " رحمه الله "

الجزء الأول

نبذه عن حياة الموصي : 
هو الشيخ زين الدين بن علي بن أحمد الجبعي العاملي وهو من مشاهير العلماء العظام .
مولده:
كتب عن نفسه :
 كان مولدي يوم الثلاثاء ، ثالث عشر شوّال ، سنة إحدى عشرة وتسعمائة من الهجرة النبويّة ( 911 هـ ).
وهو تاريخ يشير إلى ظروف حسّاسة مرّت بها الأُمّة الإسلاميّة ، أدّى فيها الشهيد الثاني دوراً مهمّاً ترك آثاره فيما بعد .
نشأته :
لا شك أنّ للبيئة أثرها ، وقد نشأ هذا العالم في أُسرة علميّة فاضلة ، يكفي أنّ ستّة من آبائه وأجداده كانوا من العلماء الفضلاء .  وكان اجتمع لديه عاملان مهمّان نهضا به إلى تسلّق سَنام المجد .
الأوّل : الجوّ العلميّ الذي تأثّر به فبَلوَر ذهنيّته ، ونمّى فيه مواهب الفقاهة والمعرفة .
الثاني : الحالة الروحيّة التي كان يتمتّع بها الشهيد الثاني منذ صباه ، فقد بكّر بختم القرآن والتوجّه  العباديّ . وإلى جانب هذين العاملين كانت الهجرة من وطنه طلباً للعلم سبباً آخر في ارتقائه مدارجَ المعرفة . فسافر إلى « ميس » إحدى قرى جبل عامِل في جنوب لبنان ولم يكن تجاوز سنَّ المراهقة ، فأكمل دراسته المعمّقة مشفوعةً بالبحث الجادّ والمراجعة المركّزة .. فقطع مراحلَ عديدة في مدّة قصيرة وهو في شوق إلى العلم وحُسن استماعٍ لحديث الأكابر، وكان شجاعاً في ساحات الحوار والمباحثة ، يُفيد ويستفيد .
فإذا بلغ الشهيد الثاني ثلاثاً وثلاثين سنةً من عمره رُزق موهبة الاستنباط الفقهي ، لكنّه لم يتظاهر باجتهاده  ؛ لما عُرف عنه من التواضع ، حتّى عُلم ذلك بعد أربع سنوات كان خلالها قد ألّف كتابه ( شرح الإرشاد ) وهو يكتم اجتهاده . 
رحلاته  :
مع أنّ السفر غربة وعناء ، ووحشة ومتاعب ومخاطر لا سيّما في ذلك الوقت .. إلاّ أن السفر كان ممتدّاً في حياة الشهيد الثاني، يرى فيه أُنساً ونوالاً . فهو لم يُعمَّر أكثر من 54 أو 55 سنة ، ولم يسافر قبل وفاته أبيه ، لكنّه قضى قرابة ثلاثين عاماً من عمره في أسفار ورحلات :
1 ـ منها علميّة : درس خلالها على أفضل العلماء ، ودرّس جمعاً غفيراً .
2 ـ ومنها عباديّة : تشرّف فيها بالحج والعمرة ،  وزيارة بيت المقدِس ، وزيارة العتبات المقدّسة في النجف الأشرف وكربلاء والكاظميّة وسامرّاء بالعراق .
وكانت سفراته العلميّة إلى ميس ، وكرك نوح ، وجُبَع ، ودمشق ومصر والحجاز وبيت المقدس والروم وحلب وأسكدار وبعلبك .. وغيرها ، حتّى لم يُبق السفر من عمره إلاّ عشر سنوات قضاها مقيماً في بلاده .

الخاتمة المشرّفة:
بالرغم من الروح الإنسانيّة والأخلاقيّة التي تحلّى بها الشهيد الثاني مع المسلمين المخالفين له في الرأي ،  إلاّ أنّه لم يسلم من الضغط الشديد والمراقبة الخانقة وإحاطة العيون والجواسيس بمنزله . حتّى اضطرّه ذلك إلى ترك مدينة « بعلبك » سنة 955 هجريّة والرجوع إلى بلدته « جُبَع » .
ولم يَنتهِ الحقد الدفين ، فما يزال في قلوب أعدائه .. يقول الشيخ الحرّ العامليّ في ( أمل الأمل 90:1 ):
ترافَعَ إليه رجُلان ، فحكم لأحدهما على الآخر، فغضب المحكوم عليه وذهب إلى قاضي صيدا ( الشيخ معروف ) فأرسل إلى جُبَع من يطلبه ، وكان الشهيد الثاني مقيماً في بستان متفرّغاً لتأليف كتابه ( اللُّمعة الدمشقيّة ) ..

 فقال أهل البلدة للمبعوث : قد سافر عنّا مدّة . فخطر ببال الشيخ أن يسافر إلى الحجّ قاصداً الاختباء من السلطة الحاقدة، فسافر متنكّراً .
حينها كتب قاضي صيدا إلى سلطان الروم أنّه قد وُجِد ببلاد الشام رجلٌ مُبدع خارج عن المذاهب الأربعة ، فأرسل السلطان رجلاً في طلب الشهيد الثاني يأتيه به حيّاً؛ ليجمع بينه وبين علماء بلاده في مباحثة يطّلعون من خلالها على مذهبه ، فإذا أُخبر السلطان حَكمَ عليه بما يقتضيه مذهبه . فرجع الرجل يخبر السلطان أنّ الشيخ توجّه إلى مكّة ، فذهب في طلبه مجتمعاً معه في الطريق، فقال الشيخ له : تكون معي حتّى نحجّ بيت الله ، ثمّ افعَلْ بي ما تريد . فرضي الرجل بذلك .
فلمّا فرغ الشهيد الثاني من الحجّ سافر مع الرجل المبعوث إلى بلاد الروم ، فلمّا وصل إليها سُئل المبعوث عن الشيخ فقال : رجل من علماء الشيعة الإماميّة ، أُريد أن أُرسله إلى السلطان ، فقال له رجل : أوَ ما تخاف أن يُخبَر السلطان بأنّك قد قصّرت في خدمته وآذيتَه ، وله هناك أصحاب يُساعدونه ، فيكون سبباً لهلاكك ؟ بل الرأي أن تقتله وتأخذ برأسه إلى السلطان !
فما كان من المبعوث إلاّ أن غَدَر بالشيخ فقتله في مكانه من ساحل البحر، ناكثاً معه عهده . وكان هناك جماعة من التركمان، فرأوا تلك الليلة أنواراً تنزل من السماء وتصعد ، فدفنوه هناك وبنوا عليه قبّة . فيما أخذ الرجل المبعوث رأس الشيخ الشهيد الثاني إلى السلطان ، فأنكر عليه السلطان قائلاً : أمرتك أن تأتيني به حيّاً فقتلتَه ! ثمّ أمر بقتله .
وقد كانت شهادته رضوان الله عليه سنة 965 هجريّة، عن عمرٍ مبارك لم يتجاوز الرابعة والخمسين أو الخامسة والخمسين عاماً. 
الوصيه : 
وجدت الوصيه في كشكول السيد علي بن يونس التفرشي تلميذ الشيخ البهائي وهو مخطوط موجود في مكتبة الشورى الاسلامي .
والوصيه كما يلي : 
وفقنا الله وإيّاك يا أخي لطاعته ، وسلك بنا سبيل مرضاته ، وأوقفنا على خلال الخير لنستعملها وعلى خصال السوء لنجتنبها ، وأعاننا على ذلك بحسن توفيقه فأنّه وليّ ذلك .
أقول : أوّل ما أوصيك به تقوى الله تعالى فيما تأتي وتذر ، فإنّها وصيّة رب العالمين إلى الأولين والآخرين ، 
قال جل جلاله في محكم كتابه : { ولقد وصّينا الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتّقوا الله } .
وهذه الوصيّه أجمع كلام للخير وأوجزه ، ومن ثمّ خصّها بالذكر وعمّها بالنظر الى الموصى من خلقه من الأوّلين والآخرين ، فلو كان من خصال الخير خصله أصلح للعبد وأجمع للخير لكانت عناية الله تعالى ورأفته بخلقه تقتضي ذكرها دونها أو معها . 
وقد مدح الله تعالى في كتابه التقوى ووصفها بصفات ورتّب عليها فوائد كثيره : 
منها : غفران الذنب وإصلاح العمل ، قال الله عزّ وجل : 
{ ياأيّها الّذين ءامنوا اتّقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصّلح لكمّ أعمالكم ويغفر لكمّ ذنوبكمّ } .
ومنها : النجاة من النّار : { ثمّ ننجّي الّذين اتّقوا } . 
ومنها : الخلود في الجنّه : { أعدّت للمتّقين } 
ومنها : التأييد : { أنّ الله مع المتّقين } .
 ومنها : الحفظ والتحصين من الاعداء : { وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئاً } .
ومنها : وهي أجلّها خصلهً وأرفعها قدراً وأعظمها خطراً وجلالةً - محبّة الله تعالى إياه - : { إنّ الله يحبّ الّمتّقين } 
ومنها : الأكرميّه عنده تعالى على من سواه : { إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم } . 
ومنها : النجاة من الشدائد وكفاية المهمّ في دار الدّنيا - وهي من أعظم أسباب التفرّغ لعبادته : 
{ ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكّل على الله فهو حسبه إنّ الله بالغ أمره } . 
الى غير ذلك من فوائدها .
المراد بالتقوى - إمتثال أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه - 
ومن ثمّ كانت هذه الخصله جامعه لجميع خلال الخير ، وسئل الصادق " عليه السلام"  عن تفسيرها فقال :
 { أن لا يفقدك حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك } . 
فعليك يا أخي وفقك الله تعالى بمراعاة هذه الوصيّه الجامعه والتحلّي بحليتها ، واغتنام عمرك القصير الذي هو متجر الدّارالآخره ، وسبب السعاده الأبديه والكرامه السرمديه ، وما أعظم هذا الربح وأقلّ رأس المال ، وأعظم الحسرة والندامه على التقصير في المعامله والاكتساب في وقته ، إذا عاين المقصّر درجات السابقين ومنازل الواصلن وثمرة أعمال المجتهدين ، وقد فات الوقت ولم يمكن الاستدراك .
وأعلم أنّك إذا تأمّلت قدر السعاده المؤبّده التي لا نهاية لها التي تحصل ثمرتها من حين الشروع في تزكية النفس وتخلص من حيث فراقها البدن ألى أبد الآبدين ، وأنّ سبب حصولها وكسبها في هذا العمر الذي غاية الطمع في زيادته والتمنّي لطوله لا يبلغ مائة سنه ، لا يصفو منها للعمل - وإن اجتهدت - إلا قليل للاضطرار الى صرف شطره في النوم والرّاحه وجانب كثير من الشطر الآخر في ضروريات البقاء الإنساني ، والفاضل من ذلك على تقدير ضبطه التام وسلامته عن الآفات وخلوصه عن  شوائب النقص ومعارضة المعاصي هو ثمن هذه السعاده الأبديه التي لا نهايه لها باتفاق أهل الملل ، ومرجعها الى بقاء بلا فناء ، ولذّة بلا عناء ، وسرور بلا كدر ، وغنى بلا فقر ، وكمال بلا نقصان ، وعزّ بلا ذلّ ، وبالجمله كلّ ما يتصوّر أن يكون مطلوب ومرغوب راغب على وجه لا يتصرّم بتصرّم الأحقاب ولا يفنى بفناء الآباد .
بل لو قدّرنا أنّ الدّنيا من عنان السّماء إلى تخوم الأرض مملوءه بالذرّ وقدّرنا  طائراً يأكل منها في كل مائة ألف سنه وأضعاف ذلك حبّه لفنيت الذرّ ولم ينقص من أبد الآباد شيء . 
فجدير أن تغتنم تحصيل ذلك وتشمّر عن ساق الجدّ فيه في أيام هذه المهله اليسيره الّتي لا يمكن حصوله في غيرها ، وفي كل نفس من الانفاس يمكن تحصيل كثره من كنوزه ، فما أجدر هذا حثّاً على طلبه وأقبح الفتور عنه بعد اعتقاد وجوده الذي لا يسع مكلّف الغفله عن اعتقاده ، ولا يتمّ الإيمان بالله  تعالى بدون اعتقاده ، لأنّه ممّا قد تضافرت به الآيات واتّفقت عليه الأنبياء والرّسل وأجمعت عليه الأمم على اختلاف أديانها وتباين مذاهبها . 
وقد رأيت ورأينا من جدّ أهل الدّنيا وتعبهم وتحمّلهم للمكاره وتركهم للملاذّ في الحال رجاءً لحصول فائدة في االمستقبل تزيد على ما يفوتهم في الحال زياده قليله محدوده مشوبه بالكدورات في زمان حصولها ، منتهيه الى أمد قليل بغير طمع طامع في بقائها ولا رجاء جاهل ولا عاقل في دوامها ، هذا على تقدير سلامتها عن سوء العاقبه مغبّة العاقل وغاية الخسران وهو أعزّ من الكبريت الأحمر ، فكيف لا يسمح العاقل بترك لذّة في الحال للتوصّل إلى هذه المزايا التي هي غير مقدّرة ولا محدوده لا آخر لها . 
ما التقاعد عن تحصيل هذه السعاده والفتور عن تهيئة أسبابها إلأ لضعف الإيمان باليوم الآخر ، وإلأ فالعقل الناقص قاض بالتشمير لسلوك سبيل السعاده فضلآ عن الكامل .
والحمد لله رب العالمين 
نظراً لطول الوصيه أرتاينا جعلها أجزاء من أجل ايصالها كاملتاً للاخوه والخوات ، من اجل الفائده 


Post a Comment

التعليق على الموضوع :

أحدث أقدم