بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى :
{ ألم يأن للّذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحقّ }
الخشوع : خمود النفس وهمود الطباع لمتعاظم أو مفزع .
والخشوع في الحقيقه خضوع ممزوج بخوف أو محنه ، فهو انكسار في النفس ، وفسّر بالخود المانع لها عن الانبساط .
والهمود في الطباع أي السكون في قواها الطبيعيّه المانع عن الانتشار هيبه لمحنون متعال في العظمه ، أو خوفاً لمن له سطوة تخشى ونقمه تتقى . وهي على ثلاث درجات :
الدرجه الاولى : التذلل للأمر ، والاستسلام للحكم ، والاتّضاع لنظر الحقّ .
التذلّل للأمر هو التعبّد به في غاية الخضوع . والاستسلام الانقياد للحكم مع إظهار العجز والمسكنه . والاتّضاع هو الوقوع في الضعه لاعتقاد كون الحقّ ناظراً إليه ، كما جاء في بيان الإحسان : ( أن تعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك ) .
والدرجه الثانيه : ترقّب آفات النفس والعمل ، ورؤية فضل كلّ ذي فضل عليك ، وتنسم نسيم الفناء .
البصير بنقائص النفس ينتظر ظهور أمراضها وعللها وآفاتها ، فيخشع قلبه لذلك .
والترقّب الانتظار والترصّد ، وآفات العمل فتور دواعيه ، والإخلال بشرائطه وتفرّق الوجهه والنيّه ، ودخول العجب والرياء فيه ، ومن آفات النفس يلزم آفات العمل ، فالمترقّب لها خاشع في عمله . ورؤية فضل كل ذي فضل هي ايفاء حقوق الناس ، وترك حقوق نفسه ، والاعتراف بفضل غيره ، ونسيان فضل نفسه وترك تزكيتها لقوله تعالى : { فلا تزكّوا أنفسكم } .
وتنسّم نسيم الفناء هو التعرّض لظهور مبادي التجلّيات ولوامع أنوارها في السرّ ، واستعار التنسّم لها للطف آثارها وإدراك إفنائها ، وهو من أوائل كشف التوحيد وفتح بابه .
الدرجه الثالثه : حفظ الحرمه عند المكاشفه ، وتصفية الوقت من مراياة الخلق وتجريد رؤية الفضل . حفظ الحرمه ترك الشطح والإدلال عند المكاشفه ومعارضة البسط بالقبض ، وإخفاء ذلك بالخشوع . وتصفية الوقت عن مراياة الخلق إخفاء الأحوال والكرامات وإظهار الضعف والعجز والمسكنه ، وترك كل ما يدعوا الى تعظيم الناس إياه واستحلائه نظر الخلق إليه .
وتجريد رؤية الفضل عن أن تكون لنفسه أو لغير الحقّ ، أو بعمل واستحقاق ، بل لا يراه ألا للحقّ ، فيخشع لمن له الفضل .
ينقل الشيخ الصدوق في الخصال مسنداً الى الإمام الصادق " عليه السلام " :
{ أن الشيطان يقول : إذا ظفرت بابن آدم في ثلاث فلا يهمّني عمله بعد ذلك لأنّه لن يقبل منه : إذا استكثر عمله ونسي ذنبه ، وتسرّب إليه العجب } !!!
أعلم يا أخي : أحد أسباب حرماننا من الخشوع هو تسلل العجب الى أنفسنا أن علمنا ام لم نعلم ، لأنّ العجب بنفسه من المهلكات والموبقات وممّا يحبط أيمان الإنسان وأعماله ويفسدها ، قال رسول الله " صل الله عليه واله " : { ثلاث مهلكات : شحّ مطاع ، وهوى متّبع ، وإعجاب المرء بنفسه وهو محبط للعمل وهو داعيه المقت من الله سبحانه } .
وفي أمالي الصدوق عن أمير المؤمنين " عليه السلام " :
{ من دخله العجب هلك } وصورة هذا السرور - الحاصل من العجب - في البرزخ وما بعد الموت تكون موحشه ومرعبه جداً ولا نظير لها في الهول . وأوضح ما يشير الى ذلك قول الرسول الأكرم " صل الله عليه واله " في وصيته لأمير المؤمنين " عليه السلام " : { ولا وحده أوحش من العجب } .
سأل موسى بن عمران " على نبينا واله وعليه السلام " الشيطان : { أخبرني بالذّنب الّذي إذا ارتكبه ابن آدم استحوذت عليه ، قال :
إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله ، وصغر في عينه ذنبه } .
يضاف على ما سمعت من مفاسد العجب ، أنّه شجره خبيثه نتاجها الكثير من الكبائر والموبقات ، فعندما يتأصّل العجب في القلب يجرّ عمل الإنسان الى الكفر والشرك والى ما هو أعظم من ذلك ، ومن مفاسده استصغار المعاصي ، بل إنّ ذا العجب لا ينهض لإصلاح نفسه ، ويظنّ أنّ نفسه زكيّه طاهره ، فلا يخطر على باله أبداً أن يطهّرها من المعاصي ، لأنّ ستار الإعجاب بالنفس وحجابه الغليظ يحول بينه وبين أن يرى معايب نفسه ، وهذه مصيبه إذ أنها تحجز الإنسان عن جميع الكمالات ، وتبتليه بانواع النواقص ، وتؤدي بعمل الإنسان الى الهلاك الأبدي ، ويعجز أطباء النفوس عن علاجه .
ومن مفاسده الأخرى أنها تجعل الإنسان يعتمد على نفسه في أعماله ، وهذا ما يصبح سبباً في أن يحسب الإنسان الجاهل المسكين نفسه في غنى عن الحقّ تعالى ، ولا يرى عليه فضل للحقّ تعالى ، ويرى - بحسب عقله الصغير - أنّ الحقّ تعالى ملزم بأن يعطيه الأجر والثواب ، ويتوهّم أنّه حتى لو عومل بالعدل أيضاً لاستحقّ الثواب .
ومن مفاسد العجب الأخرى أن ينظر الإنسان باحتقار الى عباد الله ، ويحسب أعمال الناس لا شيء وإن كانت أفضل من أعماله ، فتكون هذه النظره وسيله لهلاك الإنسان أيضاً وشوكه في طريق خلاصه ونجاته .
ومن مفاسده الأخرى أنه يدفع الإنسان الى الرياء ، لأن الإنسان بصوره عامه أذا استصغر أعماله وجدها لا شيء ووجد أخلاقه فاسده وأيمانه لا يستحقّ الذكر ، وعندما لا يكون معجباً بنفسه ولا بصفاته ولا بأعماله ، بل وجد نفسه وجميع ما يصدر عنها سيّئاً وقبيحاً لا يطرحها ولا يتظاهر بها ، فإنّ البضاعه الفاسده تكون سيّئه وغير صالحه للعرض ، ولكنه إذا رأى نفسه كاملاً وأعماله جيّده فإنه يندفع الى التظاهر والرياء ويعرض نفسه على الناس .
وهناك مفسده أخرى هي أنّ هذه الرذيله تؤدّي الى رذيله الكبر المهلكه ، وتبعث على ابتلاء الإنسان بمعصية التكبّر .
وتنشأ من هذه الرذيله مفاسد أخرى أيضاً بصوره مباشره وغير مباشره ، فليعلم المعجب أن هذه الرذيله هي بذرة رذائل أخرى ، ومنشأ لأمور يشكل كل واحد منها سبباً للهلاك الأبدي والخلود في العذاب ، فإذا عرف هذه المفاسد بصوره صحيحه ولاحظها بدقه ورجع الى الأخبار والآثار الوارده بشأنها عن الرسول الأكرم " صل الله عليه واله " وأهل بيت ذلك القائد صلوات الله عليهم أجمعين فمن المحتم أن يعتبر الإنسان نفسه ملزماً بالنهوض لإصلاح النفس وتطهيرها من هذه الرذيله واستئصال جذورها من باطن النفس ، لئلا ينتقل لا سامح الله الى العالم الآخر وهو بهذه الصفه ، وإنه حينما يغمض عينيه الماديه الملكوتيه ، ويشرق عليه سلطان البرزخ والقيامه يرى أنّ حال أهل كبائر المعاصي أفضل من حاله حيث غمرهم الله برحمته الواسعه بسبب ندمهم أو بسبب ما كان لديهم من رجاء بفضل الله تعالى ، وأمّا هذا المسكين الذي رأى نفسه مستقلّاً وحسبها في باطن ذاته غنيه عن فضل الله ، فيرى بأنّ الله تعالى حاسبه لذلك حساباً عسيراً ، وأخضعه لميزان العدل كما أراد ، وأفهمه بأنّه لم يقم بأيّة عباده لله تعالى ، وأنّ جميع عباداته أبعدته عن الساحه المقدّسه وأنّ كل أعماله وإيمانه باطل وتافه ، بل وأن تلك الأعمل والعبادات نفسها هي سبب الهلاك وبذره العذاب الأليم ورأس مال الخلود في الجحيم ، الويل لمن يعامله الباري تعالى بعدله ، فإذا ما عومل الناس مثل هذا التعامل ما نجا أحد من الأوّلين والأخرين .
أيها المسكين الجاهل بنفسك وبعلاقتك بالله ! أيها الممكن السيّىء الحظ الغافل عن واجباتك إزاء مالك الملوك ! أنّ هذا الجهل هو سبب جميع ما يلحقك من سوء التوفيق ، وهو الذي ابتلانا بجميع هذه الظلمات والمكدّرات ، إن الفساد قد ينشأ من الاساس ، وإنّ تلوث الماء قد يكون من المعين ، أنّ عيون معارفنا عمياء وقلوبنا ميّته ، وهذا سبب جميع المصائب ، ولكننا مع كل ذلك لسنا حتى بصدد أصلاح أنفسنا !!!
والحمد لله رب العالمين
إرسال تعليق
التعليق على الموضوع :