وصية الشهيد الثاني " رحمه الله " / الجزء الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد


وصية الشهيد الثاني " رحمه الله "

الجزء الثالث :
وأمّا محاسبتها بعده ، فليكن في آخر النّهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها كما يفعل التاجر في الدّنيا مع الشريك في آخر كل يوم أو شهر أو سنه خوفاً من أن يفوته منها ما لو فاته لكانت الخيرة في فواته ، ولو حصّل بخير لا يبقى إلأ أياماً قليله ، وكيف لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلّق به خطر الشقاوه أو السعاده أبد الآبادين ؟! . قال تعالى :
 { ياأيّها  الّذين إمنوا اتّقوا الله ولتنظر نفس مّا قدّمت  لغد } . 
وهي إشاره الى المحاسبه على ما مضى من الأعمال وقال " صل الله عليه واله " : { حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا } وجاءه " صل الله عليه واله " رجل فقال : يا رسول الله أوصني فقال " صل الله عليه واله " : { أمستوص أنت ؟ } قال : نعم ، قال " صل الله عليه واله " : { إذا هممت بأمر فتدبّر عاقبته ، فإذا كان رشداً فامضه ، وإن كان غيّاً فانته عنه } وقال " صل الله عليه واله " : 
{ ينبغي للعاقل أن يكون له أربع ساعات ، ساعه يحاسب فيها نفسه ... } الحديث .
ولمّ كانت محاسبة الشريك عباره عن النظر في رأس المال أو في الربح أو الخسران ليتبيّن له الزياده من النقصان ، فكذلك رأس مال العبد في دينه الفرائض وربحه النوافل والفضائل ، وخسرانه المعاصي ، وموسم هذه التجاره جملة النّهار ، ومعامله نفسه الأماره بالسوء ، فليحاسبها على هذه الفرائض أولاً فإن أدّتها على وجهها شكر الله تعالى على ذلك ورغّبها في مثلها ، وإن فوتّتها طالبها بالقضاء ، وإن أدّتها ناقصه كلّفها الجبران بالنوافل ، وإن ارتكبت معصيه عاقبها وعذّبها ليستوفي منها ما يتدارك به كما يصنع التاجر بشريكه ، وكما أنّه يفتّش في حساب الدّنيا عن الدراهم والقيراط حتّى لا يغبن في شيء منها ، فأولى أن يتّقي غبن النفس ومكرها ، فإنّها خدّاعه مكّاره فليطالبها أولاً بتصحيح الجواب عن جميع ما يتكلّم به طول  نهاره ، وليكلّف نفسه في الخلوه ما يتولاّه غيره بها في صعيد القيامه على رؤوس الأشهاد ويفضحه بينهم ، وكما يكره أن يظهر عيبه لأصحابه وجيرانه فيترك النقص لأجلهم فأولى أن يفعل ما يظهر عليه في مشهد تجتمع فيه الأنبياء والرّسل والأشقياء والأتباع من الأوّلين والآخرين فضلاً عن الجيران والمعارف من أهل البلد وغيرهم ، وهكذا يفعل في تفقّد حركاته وسكناته بل جميع لعمر في جميع الأعضاء الظاهره والباطنه . 
وقد نقل عن بعض الأكابر - كان محاسباً لنفسه - فحسب يوماً وإذا هو ابن ستّين سنه ، فحسب أيّامها فإذا هي إحدى وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم ، فصرخ وقال : يا ويلتي ! ألقى الملك بإحدى وعشرين ألف ذنب ، كيف وفي كلّ يوم ذنوب ، ثمّ خرّ مغشيا عليه فإذا هو ميّت ، فسمعوا قائلاً يقول : يا لها ركضه الى الفردوس ، فهكذا ينبغي المحاسبه على الأنفاس وعلى القلب والجوارح في كلّ ساعه ، ومن تساهل في حفظ المعاصي فالملكان يحفظان عليه : { أحصاه الله ونسوه } .
واعلم أنّك قد عرفت أنّ التقوى شطران : اكتساب واجتناب ، فالأول فعل الطاعات ، والثاني ترك المعاصي ، وهذا الشطر هو الأشد ورعايته أولى ، لأنّ الطاعه يقدر عليها كل أحد ، وترك المعاصي لا يقدر عليه إلا الصدّيقون .
ولذلك قال رسول الله " صل الله عليه واله " : { المهاجر من هاجر السوء ، والمجاهد من جاهد هواه } .
وكان " صل الله عليه واله " إذا رجع من الجهاد يقول : { رجعنا من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر } يعني جهاد النفس . 
وايضاً فإنّ شطر الاجتناب يزكو مع حصول ما يحصل نعمه من شطر الاكتساب وإن قلً ، ولذلك قال " صل الله عليه واله " : 
{ يكفي من الدّعاء مع البرّ ما يكفي الطعام من الملح } ، وقال " صل الله عليه واله "  في جواب من قال : أنّ شجرنا في الجنّه لكثير : { نعم ولكن أياكم أن ترسلوا عليها نيراناً فتحرقوها } ، وقال " صل الله عليه واله " : { الحسد يكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب } ، الى غير ذلك من الآثار الوارده بذلك . 
فإذا ظفرت بالشطرين جميعاً فقد حصلت على التقوى حقّاً ، وإن اقتصرت على الأول كنت مغروراً ، ومثلك في ذلك كمثل من زرع زرعاً فنبت ونبت معه حشيش يفسده ، فأمر بتنقيته من أصله فخذ يجزّ رأسه ويترك أصله ، فلا يزال ينبت ويقوى أصله حتّى يفسده ، أو كمريض ظهر به الجرب وقد أمر بالطلاء وشرب الدواء ،  فالطلاء ليزيل ما على ظاهره والدواء ليقلع مادته من باطنه ، فقنع بالطلاء وترك الدواء وبقي يتناول ما يزيد المادّه ، فلا يزال يطلي الظاهر والجرب دائم به يتفجّر من المادّه في الباطن ، أو كمن بنى داراً وأحكمها ولكن في داخلها حشرات ساكنه من الحيّات والعقارب والجراد وغيرها ، فأخذ في فرشها وسترها بالفرش الحسنه الفاخره ، ولا تزال الحشرات تظهر من باطنها فتقطع الفرش وتخرق الستور وتصل الى بدنه باللسع ، ولو عقل لكان  همّه أوّلاً دفع أذاها ولسعها ، بل أي نسبه بين لسع الحيّات في دار الدّنيا الذي ينقضي المه في مدّه يسيره ولو بالموت الذي هو أقرب من لمح البصر وبين حيّات المعاصي التي يبقى ألمها في نار جهنّم ، نعوذ بالله تعالى منه ونسأله العفو والرّحمه .
ثّم القول  في قسم الاكتساب موكول الى كتب العبادات وإن افتقرنا في ذلك الى وظائف قلبيه ودقائق علميه وعمليه لم يدوّنها كثير من الفقهاء ، وإنّما يفتح بها على من أخذ التوفيق بزمام قلبه الى الهدايه الى الصراط المستقيم .
وأما شطر الاجتناب فمنه ما يتعلّق بالجوارح ، ومنه ما يتعلّق بالقلب : 
فأمّا الجوارح التي تتعلّق بها المعصيه  - وهي السبعه الّتي هي بمقدار أبواب جهنّم - فمن حفظها حرس من تلك الأبواب إن شاء الله تعالى ، وهي العين والأذن واللّسان والبطن والفرج واليد والرجل .
فأمّا العين فإنّها خلقت لك لتهتدي بها في الظلمات وتستعين بها على قضاء الحاجات ، وتنظر بها ملكوت الأرض والسّماوات وتعتبر بما فيها من الآيات ، والنظر في كتاب الله تعالى وسنة نبيه " صل الله عليه واله " ومطالعة كتب الحكمه للإستيقاظ  ، فاحفظها أن تنظر بها الى غير محرم والى مسلم بعين الاحتقار ، أو تطّلع بها الى عيب مسلم بل كل فضول مستغن عنه ، فإنّ الله جلّ جلاله يسألك عن فضول النظر كما يسأل عن فضول الكلام .
وأمّا الأذن فاحفظها أن تصغي بها الى بدعه أو فحش أو غيبه أو خوض في الباطل أو ذكر مساوىء النّاس ، فإنّها إنّما خلقت لك لتسمع  كلام الله تعالى وسنّة رسوله " صل الله عليه واله " وأوليائه وتتوصّل باستفادة العلم بها الى الملك  المقيم والنعيم الدائم . 
وأمّ اللّسان فإنّه خلق لذكر الله وتلاوة كتابه العزيز وإرشاد خلق الله أليه وإظهار ما في الضمير من الحاجات للدّين والدّنيا ، فإذا استعمل في غير ما خلق له فقد كفر به بنعمة الله تعالى ، وهو أغلب الأعضاء على سائر الخلق لأنّه منطلق بالطبع ولا مؤونه عليه في الحركه ، ومع ذلك جنايته عظيمه بالغيبه والكذب وتزكية النفس ومذمّة الخلق والمماراة وغير ذلك من آفاته ، ولا يكبّ النّاس على مناخرهم في النّار إلا حصائد ألسنتهم فاستظهر عليه بغاية قوّتك حتّى لا يكبّك في جهنّم ، ففي الحديث : { إنّ الرجل ليتكلّم  بالكلمه فيهوي بها في جهنّم سبعين خريفاً } وروي أنّ رجلاً قتل شهيداً في المعركه فقال قائل : هنيئاً له الجنّه ، فقال " صل الله عليه واله " : { ما يدريك لعلّه كان يتكلّم فيما لا يعنيه ويبخل بما لا يغنيه } 
وأمّا البطن فكلّفه ترك الشره وإحرص عل أن تقتصر من الحلال على ما دون الشبع ، فإنّ الشبع يقسّي القلب ، ويفسد الذهن ويبطل الحفظ ويثقل الأعضاء عن العباده ، ويقوّي الشّبهات وينصر جنود الشيطان ، والشبع من الحلال مبدأ كل شر ، وهكذا تتفقّد باقي جوارحك فطاعاتها ومعاصيها لا تخفى . 
وأمّا ما يتعلّق بالقلب فهو كثير وطرق تطهيره من رذائلها طويله ، وسبيل الفلاح فيها غامض ، وقد اندرس علمه وعمله وانمحى أثره والورع المتّقي في زماننا من راعى السلامه من المحرّمات الظاهره المدوّنه في كتب الفقه ، وأهملوا تفقّد قلوبهم ليمحوا عنها الصفات المذمومه عند الله تعالى من الحسد والكبر والبغضاء والرياء وطلب الرئاسه والعلى وسوء الخلق مع القرناء وإرادة السوء للأقران والخلطاء ، حتّى أنّ كثيراً لا يعدون ذلك من المعاصي مع أنّها رأسها ، كما أشار إليه " صل الله عليه واله " بقوله : 
{ أدنى الرياء الشرك } وقوله " صل الله عليه واله " : { لا يدخل الجنّه من في قلبه مثقال ذرّه من كبر } وقوله : { الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب } وقوله : { حبّ المال والشرف ينبتان النفاق كما ينبت الماء البقل } الى غير ذلك من الاخبار الوارده وقد قال " صل الله عليه واله " : { إنّ الله لا ينظر الى صوركم ولا الى أموالكم وإنّما ينظر الى قلوبكم وأعمالكم } .
فهذه جماع أمر التقوى التي أوصانا الله تعالى  بها ، على وجه الإجمال وتفاصيلها تحتاج الى مجلدّات .
ولنشفع وصيّة الله تعالى لعباده بوصيّة لأمير المؤمنين " عليه السلام " :  يا علي أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها - ثم قال : اللهم أعنه - : 
أمّا الأولى : فالصدق ، لا يخرجنّ من فيك كذبه أبداً . 
أمّاً الثانيه : الورع ، لا تجترىء على جنايه أبداً . 
أمّا الثالثه : الخوف من الله تعالى كأنّك تراه . 
أمّا الرابعه : كثرة البكاء لله تعالى ، يبني لك بكلّ  دمعه بيت في الجنّه .
أمّا الخامسه : بذل مالك ودمك دون دينك .
أمّا السادسه : الأخذ بسنّتي في صلاتي وصيامي وصدقتي : أمّا الصلاة فالخمسون ركعه ، وأمّا الصوم فثلاثة في كي كلّ شهر ، خميس في أوله ، وأربعاء في وسطه ، وخميس في آخره  ، وأمّا الصدقه فجهدك حتّى يقال : إنّك قد أسرفت ولم تسرف ، وعليك بصلاة اللّيل ، وعليك برفع  يديك في صلاتك وتقليبهما ، وعليك بالسواك عند كل وضوء ، وعليك بمحاسن الأخلاق فارتكبها ومساوىء الأخلاق فاجتنبها ، فإنّ لم تفعل فلا تلومنّ إلا نفسك  . 
ولأمير المؤمنين " عليه السلام " وصيه جليله لولده الحسن " عليه السلام " مذكوره في نهج البلاغه وغيره ، فينبغي مراجعتها فإنّها تشتمل حكم ومواعظ كثيره .
وقال عنوان البصري للصّادق جعفر بن محمد : " عليه السلام " : أوصني فقال " عليه السلام " : أوصيك بتسعة أشياء فإنّها وصيّتي لمن يريد الطريق الى الله تعالى ، والله أسأل أن يوفّقك لا ستعمالها وهي : ثلاثه منها في رياضة النفس ، وثلاثه منها في الحلم ، وثلاثه في العلم فاحفظها ، وإيّاك والتهاون بها ، قال عنوان : ففرّغت قلبي له ، قال " عليه السلام " : فإمّا اللواتي في الرياضه فإيّاك أن تأكل ما لا تشتهيه فإنّه يورث الحماقه والبله ، ولا تأكل ألأ عند الجوع ، وإذا أكلت فكل حلالاً وسمّ الله واذكر حديث رسول الله " صل الله عليه واله " : ما ملأ آدميّ وعاءاً شراً من بطنه ، فإن كان ولا بد فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه .
وأمّا اللواتي في الحلم ، فمن قال لك : أن قلت واحدةً سمعت عشراً ، قل له : أن قلت عشراً  لم تسمع واحده ، ومن شتمك فقل له : أن كنت صادقاً فيما تقول فاسأل الله أنه يغفرها لي ، وأن كنت كاذباً فأسال الله أن يغفرها لك ، ومن وعدك بالخنى فعده بالنصيحه والدّعاء .
وأمّا اللواتي في العلم ، فاسأل العلماء ما جهلت ، وإيّاك أن تسألهم تعنّتاً وتجربه ، وأيّاك أن تعمل برأيك شيئاً  ، وخذ بالاحتياط في جميع أمورك ما تجد أليه سبيلاً ، واهرب من الفتيا هربك من الأسد ولا تجعل رقبتك جسراً للنّاس . 
ثمّ قال " عليه السلام " : قم عنّي يا أبا عبد الله فقد نصحت لك ، ولا تفسد عليّ وردي فإنّي أمرؤ ضنين بنفسي والسلام .
وقال " عليه السلام " في وصيّته لآخر : أفضل الوصايا وأكرمها أن لا تنسى ربّك ، وأن تذكره دائماً ولا تعصيه وتعبده قائماً وقاعداً ، ولا تغتر بنعمته وتخرج من أستار عظمته وجلاله فتضلّ وتقع في الهلاك وإن مسّك البلاء والضرّ وأحرقتك نيران المحن ، واعلم أنّ بلاياه  مخبوءه  بكراماته الأبديه ، ومحنه مورثة رضاه وقربته ولو بعد حين ، فيا لها من مغنم لمن علم ووفّق لذلك . 
وقال :روي أنّ رجلاً استوصى رسول الله " صل الله عليه واله " فقال " صل الله عليه واله " : لا تغضب قطّ ، قال : زدني ، فقال " صل الله عليه واله " : صلّ صلاة مودّع ، فإنّ فيها الوصل والقربى ، فقال : زدني ، فقال " صل الله عليه واله " : استح من الله استحياك من صالح جيرانك ، فإنّ فيها زيادة اليقين .
وقد جمع الله ما يتواصى به المتواصون من الأولين ولآخرين في خصله واحده وهي التقوى ، يقول الله عزّ وجلّ : { ولقد وصّينا الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإيّاكم أن اتّقوا الله } وفيه جماع كل عباده صالحه وبه وصل من وصل الى الدرجات العلى والرتب القصوى ، وبه عاش من عاش مع الله بالحياة  الطيّبه والأنس الدائم قال الله عزّ وجلّ : { إنّ المتّقين في جنّات ونهر * في مقعد صدّق عند مليك مّقتدر } 
هذا آخر ما اتفق ذكره في هذه الوصيّه في وقت ضيّق وخاطر مقسّم لم يتفق لذلك زياده عليه ، ولعلّ فيه إن شاء الله كفايه إذا روعي بحسن التدبير والله تعالى يوفّقنا وإيّاكم لما يحبّه ويرضاه من القول والعمل ويجعل ما بقي من أيام هذه المهله على طاعته موقوفاً ، وعمّا يبعد عن جنابه مصروفاً ، أنّّه ولي ذلك وعليه الاعتماد في جميع الأحوال وهو حسبنا ونعم الوكيل .

Post a Comment

التعليق على الموضوع :

أحدث أقدم