حب الدنيا

بسم الله الرحمن الرحيم
 اللهم صل على محمد وال محمد


حب الدنيا


سكر الدنيا ، الناشيء من حبّها ، الذي هو من أمراض النفس الخطيره ، فيسلب لبّ الانسان ويفقده صوابه .
ولحب الدنيا وسكرها مظاهر كثيره ، فقد يحصل من المال أو الجاه والرياسه ، وقد يدخل في أمور دقيقه عند السالكين والعارفين ، وقد يغفل عنها فتظهر على نواياه أو أقواله وافعاله ، فإن لم يعالجها يرجعه الى أسفل السافلين ، ولذا كان الأنبياء والمرسلون يتعوذون بالله منهما ويتوبون ويستغفرون الله ، ممّا قد يصدر منهم في أطوار حياتهم المعنويه ، فإن الأمر دقيق جداً والانسان في اختبار وامتحان مستمرين ، وكانت سيرة الأئمه الأطهار " عليهم السلام " في معاملتهم الدنيا على حذر شديد .
فإنّ جمالها الفاتن يخلب القلوب ويصّد السالك المجذوب ، وقد نقل عن بعض العرفاء في من كان مشغولاً بنفسه  وزاهداً عن الدنيا ومفاتنها مده طويله ، ولما عرض عليه القضاء قبله قال : إنه كان يضمر حبّ الدنيا مدة أربعين سنه وهو صحيح ، فإنه يبقى في مكنون النفس مده طويله ويكون صاحبها مشغولاً في جهه أخرى .
أنّ أكبر الفواحش حب الدنيا الذي يجتمع مع الأهويه النفسانيه ، وحينئذ يكون حد هذه الفاحشه هو إماتة النفس الأماره وإصلاحها بالتوبه والعمل الصالح ، وترويضها بالملكات الفاضله وتزيين النفس بالأخلاق الحميده ، وتزكيتها بالتقوى ليحصل القرب من الله تعالى والبعد من الدنيا وما فيها فإن ذلك هو الكمال المطلق .
ونحا الامام المفسر المنحى نفسه في البحث العرفاني اللاحق لتفسير قوله تعالى : ( حرمت عليكم الميته والدم ولحم الخنزير ... الى آخر الايه ) فقال : ظاهر الآيه المباركه وإن كان خطاباً للمؤمنين بإبلاغهم تكاليف توجب رقّي نفوسهم وتنوير قلوبهم ، ولكن يحتمل أن يكون باطنها عتاباً لأهل السير والسلوك الذين يطلبون الحق ويسعون للوصول الى الحقيقه ، بهجر الدنيا لنيل رضاه تعالى ، فناداهم ربّهم جل شأنه بقوله : ( حرمت عليكم الميته ) أي : الدنيا بأسرها ، ففي كثير من الرويات التعبير عن الدنيا بالميته ،
فعن جعفر بن محمد الصادق " عليه السلام " : ( والله لقد نزلت الدنيا منزل الميته ، متى اضطررت اليها أكلت ) فحرمت الدنيا على الطالبين للحق والسالكين الى ساحة قربه .
كذلك حرمت عليهم الصفات التي توجب البعد عن الأخلاق الساميه ، كالحرص والقسوه بل حرمت عليهم جميع ألوان الدنيا ومتغيراتها .
وحرمت عليهم اختناق فطرته الداعيه الى الله العظيم بمخالب الاطماع ، أو خنق نفوسهم بإخراج أنوارها الكائنه فيها بالرياء والإسماع ، أو بضرب جرح الصدر  المنشرح بالأسلام والمهيأ للحضور عند صاحب القلب وخالقه العلام .
وحرم عليهم أن يردوا أنفسهم من أعلى العليين الى أسفل السافلين باتباع الشهوات والتعلق بالماديات ، كما حرم عليهم التناطح مع الأقران بالتفاخر والمماراة بالعلم والزهد حتى في السير والسلوك بين الأخوان .
وحرم عليهم القرب من كل الظالمين  الذين يتهاوشون على جيفة الدنيا تهاوش الكلاب .
كما  حرم عليهم تقرب نفوسهم لبيوت الأوثان ، وهي المظاهر الموجبه للصد عن معرفة الله تعالى بالتوغل فيما يوجب البعد عن ساحة قربه بمعاشرة غير الأولياء الأخيار والأبرار ، فلا تكونوا مترددين متفئلين غير متوكلين على  الله تعالى بفتح قلوبكم لسهام الشيطان .
فإئا خلصتم من هذه الدواهي ، وتركتم  هذه القبائح ، وخرجتم من هذه الظلمات لكون ( ذلكم فسق ) أي : أنّ جميعها مهالك وظلمات توجب أماتة القلب ، وإخماد الفطره ، والعذاب الأليم لأنه يوجب الخروج عن طاعة الله تعالى ف ( اليوم يئس الذين كفروا ) لتحلية نفوسهم بالفيوضات الإلهيه، بعد التحليه عن المكائد الشيطانيه  ويأسهم عن إضلالكم لعدم تأثير الدنيا في نفوسكم مهما تزينت وتلونت لحصول المقصود بعد ما خلصتم أنفسكم من تلك الظلمات ، فعاد ليلكم نهاراً ونهاركم أنواراً ( من دينكم ) لأنه المنهج الوحيد للرقي الى المراتب العاليه والوصول الى المقامات الساميه والفوز بالسعاده الأبديه ( فلا تخشوهم ) لأنكم بلغتم المرحله التي لا تؤثر فيكم مكائد الشيطان ومصائده ، ونلتم المقام الذي قاله رسول الله " صل الله عليه واله " : ( ما فعلت يا بلال ؟ سمعت دقّة نعليك قبل دخولي الجنّه ) .
( واخشون ) لأن الكمال والتكامل منه تعالى ، وأنّ كيده متين وبطشه شديد ، ولولا إمداده لأنعدمت الكائنات وزالت السماوات وفنيت الموجودات .
تحدث الامام المفسر عن الارتداد الذي هو الرجوع من الله الى النفس البهيميه والركون الى الشهوات ، وهو أهم الحجب الظلمانيه التي تطفىء نور العقل الذي به يتغلب على النفس ، ويرشدها الى ما فيه سعادتها وفيه حب الذات وإيثارها على خالقها ، وفيه ترجيح ما سواه عز وجل ، وفيه تولي أعداء الله عز وجل الذين هم حجب ظلمانيه وعوائق في طريق الاستكمال ، وفيه مبارزة الله عز وجل بإذلال المؤمن وإعزاز الكافر ، وفيه فقدان طمأنينة النفس والثقه بالله تعالى وبالآخره ، وهو حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئه ، كما قال رسول الله " صل الله عليه واله " : ( حب الدنيا رأس كل خطيئه ) وقول سيد الأولياء والعرفاء علي " عليه السلام " : ( أعدى عدوك   نفسك التي بين جنبيك ).
 فإذا لم يرجع عن غفلته ويصلح شأنه فأن الله يبدله بآخرين ، لهم نفوس قدسيه وحالات انقطاعيه الى الله عز وجل ، يصلحون لأن يكونوا مرشدين لغيرهم فقد أفنوا ذواتهم الشريفه في حب الله ووصلوا الى حد اليقين ، فهم في الله ، وبالله  ، والى الله  ،  واستبدلوا بتلك الحجب والظلمات أنواراً أشرقت على نفوسهم فأفيضت منهم على غيرهم .
تحدث الامام المفسر عن حال الانسان الغافل فذكر أنّ الله تعالى خلق الانسان في أحسن تقويم من حيث الجمال الظاهري وتمام الصنعه والخلقه والاستعداد لتلقي الفيوضات والقابليه للاستكمال ، فأودع فيه الفطره التي جمع فيها الحقائق والمواثيق ،
وجعل فيه العقل الذي به امتازعن سائر المخلوقات وليدرك به صنع ربه فيه ، وما أودعه في مخلوقاته ويميز الصالح من غيره ،
وبعث من أجله التكليف والتشريع وهو نعمه إلهيه خصه بها ، ولكن إذا غفل عن نفسه واتبع هواه فصار مرتعاً للشيطان وأعرض عن ذكر الرحمن ، أصبح عرضه للفساد والآثام فلم يكن له مستند فطري ليردعه عن غيه ، ولا أسناد عقلي ليمنعه عن ضلاله ، ولا اعتمد على مبدأ  غيبي ليوصله الى الكمال ، فحينئذ يأتي الخطاب بأنه ليس على شيء ، وما أشد هذا الخطاب الربوبي إذ يجرد الانسان من أسباب الصلاح ، إلا أن تدركه بارقة ألهيه ليرجع الى الطاعه ، فينقدح فيه نور الإيمان ليضيء له الدرب للاستكمال ،
فيتوب الى الله ويرجع اليه بالإنابه ويقيم الشريعه ،
ولا ريب في أن تلك المراحل والمراتب لا تنال إلا بتوفيق من رب العالمين ، وإنما على الانسان الاستعداد للرجوع الى الطاعه والإنابه لدى جنابه .
والحمد لله رب العالمين 

***********************


***********************

إرسال تعليق

التعليق على الموضوع :

أحدث أقدم