الانسان عالم صغير

 بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على محمد وال محمد



الانسان عالم صغير


قال سيد البلغاء أمير المؤمنين علي بن ابي طالب " عليه السلام " :

أتحسب أنك جرمٌ صغيرٌ.. وفيك انطوى العالم الأكبر )

أن الحكماء الأولين لما نظروا الى هذا العالم الجسماني بأبصار عيونهم  ، وشاهدوا ظواهر أموره بحواسهم ، وتفكروا في أحاوله  بعقولهم   ، وتصفحوا تصرف أشخاص كلياته ببصائرهم ، فلم يجدوا جزءاً من جميع أجزائه أتم بنيه ولا أكمل  صوره أشد تشبيهاً من الانسان .

الانسان هو مجموعه من جسد جسماني ونفس روحانيه ، في هيئه بنية جسده مثالات لجميع الموجودات التي في العالم الجسماني ، من عجائب تركيب افلاكه ، وأقسام أبراجه ، وحركات كواكبه ، واختلاف جواهر معادنه ، وفنون أشكال نباته ، وغرائب هياكل حيواناته .

وأيضاً لأصناف الخلائق الروحانيين من الملائكه والجن والانس  والشياطين ، ونفوس سائر الحيونات ، وتصرف أحوالها في العالم ، تشبيهاً من النفس الإنسانيه وسريان قواها في بنية الجسد .

الانسان مكون من جوهرين مقرونين : أحدهما هذا الجسد الجسماني الطويل العريض  العميق المدرك بطريق الحواس ، والآخرى هذه النفس الروحانيه العلامه المدركه بطريق العقل .

ولما كان الهيولى والصوره أيضاً جوهرين بسيطين ، روحانيين ، معقولين ، مخترعين مبدعين ، كما شاء باريهما جل جلاله ، للفعل والانفعال ، قابيلين  بلا كيف ولا زمان ولا مكان بل بقوله " كن فكان .

وأن الانسان مجموعه من جسد ظلماني ، ونفس روحانيه ، صار إذا اعتبر جسده وما فيه من غرائب تركيب أعضائه وفنون تأليف مفاصله يشبه داراً لساكنها ، وإذا اعتبر حال نفسه وعجائب تصرفها في بناء هيكل جسده  وسريان قواه في مفاصل بدنه ، يشبه ساكنا في منزله مع خدمة وأهله وولده ، ومن وجه آخر إذا اعتبر بنية جسده مع اختلاف أشكال أعضائه وافتنان تأليف مفاصله يشبه دكاناً للصانع .

أعلم : أن لجواهر النفوس عند الله منزله وكرامه ليست لجواهر الاجسام ، وذلك لقرب نسبتها منه ، وبعد نسبة الاجسام ،  وذلك أن جواهر النفوس  حيه بذاتها علامه وفعاله ، وجواهر الاجسام ميته منفعله لا مثال لها .

ومن وجه آخر نسبة النفس من العقل كنسبة ضوء  القمر من  نور الشمس ، ونسبة العقل من الباري كنسبة نور الشمس من الشمس ، وكما أن القمر إذا امتلأ من نور الشمس حاكى نوره نورها ، كذلك النفس إذا قبلت فيض العقل فاستتمت فضائها حاكت أفعالها أفعال العقل ، وإنما تستتم فضائلها إذا هي عرفت ذاتها وحقيقة جوهرها ، وانما تستبين فضائل جوهرها إذا هي عرفت أحوال عالمها الذي هو صورة الإنسانيه ، لأن الباري تعالى خلق الانسان في أحسن تقويم وصوره أكمل صوره ، وجعل صورته مرآة لنفسه ليتراءى فيها صورة العالم الكبير ، وذلك لأن الباري جل جلاله لما أراد أن يطلع النفس الانسانيه على خزائن علومه ، ويشهدها العالم بأسره ، علم أن العالم واسع كبير وليس في طاقة الانسان أن يدور في العالم حتى يشاهده كله لقصر عمره وطول عمران العالم الكبير .

فرأى من الحكمه أن يخلق لها عالماً صغيراً مختصراً من العالم الكبير ، وصور في العالم الصغير جميع ما في العالم الكبير ، ومثله بين يديها ، وأشهدها إياه فقال عز من قائل : " وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوبأجمعهم : بلى ، فمن كان منهم شاهداً عالماً عارفاً حقيقته كانت شهادته عليه حقاً ، ومن كان جاهلاً كانت شهادته مردوده لأنه قال عز وجل : " إلا من شهد بحق وهم يعلمون " ألا ترى أنه لا يقبل إلا شهادة أهل العلم ؟

أعلم : أن افتتاح جميع العلوم هو معرفة الانسان نفسه ، ومعرفة الانسان تكون من ثلاث جهات : أحدها أن يعتبر أحوال جسده 

وتركيب بنيته وما يتعلق عليه من الصفات خلواً من النفس ، والآخر اعتبار أحوال  نفسه وما يوصف من الصفات خلواً من الجسد ، والآخر اعتبار أحوالها مقترنين جميعاً وما يتعلق على الجمله من الصفات . 

أن الباري تعالى جعل في تركيب جسد الانسان أمثله وإشارات الى تركيب الأفلاك وأبراجها والسموات وأطباقها وجعل سريان قوى النفس في مفاصل جسده ، واختلاف أعضائه كسريان قوى  أجناس الملائكه وقبائل الجن والانس  والشياطين في أطباق السموات والارض في أعلى عليين الى أسفل السافلين .

وانقل لكم خير مماثله لتركيب جسد الانسان بتركيب الأفلاك :

يقول لما كانت الأفلاك تسع طبقات مركبه بعضها جوف بعض ، كذلك وجد في تركيب الانسان تسع جواهر بعضها جوف بعض ملتفات عليها مماثله لها ، وهي العظام والمخ واللحم والعروق والدم والعصب والجلد والشعر والظفر ، فجعل المخ  في جوف العظام مخزوناً لوقت الحاجه اليه ، ولف العصب على مفاصله كيما يمسكها فلا ينفصل ، وحشا خلل ذلك باللحم صيانه لها ، ومد في خلل اللحم العروق والأورده الضاربه لحفظها وصلاحها ، وكسا الكل بالجلد ستراً لها وجمالاً لها ، وأنبت الظفر والشعر من فضل تلك الماده لمأربها ، فصار مماثلاً لتركيب الأفلاك بالكميه والكيفيه جميعاً ، وهذه تسع جواهر بعضها جوف بعض .

ويقول : لما كان الفلك مقسوماً  أثني عشربرجاً ، وجد في بنية الجسد أثنا عشر تقباً مماثلاً له ، وهي العينان ، والأذنان ، والمنخران ، والثديان ، والفم ، والسره ، والسبيلان .

ويضيف لما كانت الأبراج سته منها جنوبيه وسته منها شماليه ، كذلك وجدت ست ثقب في الجسد في الثمانية وعشرين حرفاً جانب اليمين وست في الجانب الشمال ، ولما كان في الفلك سبعة كواكب سياره بهما تجري أحكام الفلك والكائنات ، كذلك وجد سبع قوى في الجسد فعاله بها يكون صلاح الجسد .

يقول أيضاً : ولما كانت هذه الكواكب ذوات نفوس وأجسام ، لها أفعال جسمانيه في الأجسام ، وأفعال روحانيه في النفوس ، كذلك وجدت في الجسد سبع قوى جسمانيه وهي القوى الجاذبه والماسكه والهاضمه والدافعه والغاذيه والناميه والمصوره ، وسبع قوى أخرى روحانيه  ، وهي القوه  الحساسه أعني الباصره والسامعه والذائقه والشامه واللامسه والقوه الناطقه والقوه  الحساسه مناسبه  للخمسه المتحيره  .

وأما القوه الناطقه فمجراها الحلقوم الى اللسان ، والقوه العاقله وسط الدماغ ، ونسبة القوه الناطقه الى القوه العاقله كنسبة القمر الى الشمس ، وذلك أن القمر يأخذ نوره من الشمس في جريانه من منازل القمر الثمانيه والعشرين ، كذلك القوه الناطقه تأخذ معاني ألفاظه بجريانه في الحلقوم ، فيعبر عنها بثمانيه وعشرين حرفاً ، ونسبة ثمانية وعشرين حرفاً للقوه الناطقه كنسبة ثمانيه وعشرين منزلاً للقمر .

ويقول : وكما أن من هذه الأركان الأربعه تتحلل البخارات فمنها تتكون الرياح والسحب والأمطار والحيونات والنبات والمعادن ، وكذلك بهذه  الأعضاء الأربعه تحلل البخارات في بدن الانسان مثل ما يخرج المخاط من المنخرين ، والدموع من العينين ، والبصاق من الفم ، والرياح من التي تتولد في الجوف ، والرطوبات التي تخرج مثل البول والغائط وغيرها .

فبنية جسده كالأرض ، وعظامه كالجبال ، والمخ فيه كالمعادن ، وجوفه كالبحر ، وأمعاؤه كالأنهار ، وعروقه كالجداول ، ولحمه كالتراب ، وشعره كالنبات ، ووجهه الى القدم كالعمران ، وظهره كالخراب ، وقدام وجهه كالمشرق وخلف وأصواته كالصواعق ، وضحكه ظهره كالمغرب ويمينه كالجنوب ، ويساره كالشمال ، وتنفسه كالرياح ، وكلامه كالرعد ، وأصواته كالصواعق ، وضحكه كضوء النهار ، وبكاؤه كالمطر ، وبؤسه وحزنه كظلمة الليل ، ونومه كالموت ، ويقظته كالحياة ، وأيام صباه كأيام الربيع   ، وأيام شبابه كأيام الصيف ، وأيام كهولته كأيام الخريف ، وأيام شيخوخته كأيام الشتاء ، وحركاته وأفعاله كحركات الكواكب ودورانها ، وولادته وحضوره كالطوالع ، وموته وغيبوبيته كالغوارب ، واستقامة أموره وأحاوله كاستقامة الكواكب ، وتخلفه وأدباره كرجوعاتها ، وأمراضه وأعلاله كاحتراقاتها ، وتوقفه وتحيره في الأمور كتوقفها ، وارتفاعه  في المنزله والشرف كارتفاعها في أوجتها وأشراقها ، وانحطاطه في المنزل والسقوط كهبوطها وسقوطها في حضيضها ، واجتماعها مع أمرأته  كأجتماعها  .

وأيضاً إن أحوال القمر تشبه أحوال أمور الدنيا من الحيوان والنبات وغيرها ، وذلك أن القمر يبتدىء من أول الشهر بالزياد في النور والكمال ، الى أن يتم في نصف الشهر ، ثم يأخذ في النقصان والاضمحلال والمحاق الى آخر الشهر ، وهكذا حالات أهل الدنيا تبتدىء من أول الأمر بالزياده ، فلا تزال تنمو وتنشأ الى أن تتم وتستكمل ، ثم تأخذ في الانحطاط والنقصان الى أن تضمحل وتتلاشى . 

والحمد لله رب العالمين 


***********************


***********************

إرسال تعليق

التعليق على الموضوع :

أحدث أقدم