معرفة النفس وكيفية معرفتها عند الملل الأخره

بسم الله الرحمن الرحيم
 اللهم صل على محمد وال محمد



معرفة النفس 
وكيفية معرفتها عند الملل الأخره 


علم العرفان :
ـــــــــــــــــــ
قديم جداً منذ بدء الخليقه ، ومن السنن الدائره بين الناس ، وبأهميته يعلل الإمام السبزواري في - مواهب الرحمن في تفسير القرآن - أنّه لم يكن مختصاً بملة الإسلام بل كان في الملل الأخرى ، حتى الأديان الوضعيه ، بل إن منهج بعضها وشريعتها لا تكون إلا بعرفان النفس ومعرفة سائر خصوصياتها ، وتشريع رياضات خاصه في هذا السبيل وحرمانها من اللذائذ الجسمانيه ، وانعطاف الفرد الى النفس بأصلاحها ، ولذا كانت محورها وأساسها الارتياضات النفسانيه والزهد والتقشف من متاع الدنيا ، فإن الانكباب عليها ومطاوعة هوى النفس يصرف الإنسان عن الاشتغال بنفسه .
ويعلل الامام المفسر الآثار العجيبه التي تظهر من العارفين من أهل هذه الملل ، والتي هي أعظم مما يترتب على الأمور الماديه من الآثار بمراتب كثيره بأنّ ( النفس من عالم الأمر ومن المجردات التي لها تعلق بالبدن ، فكانت ذاتها منها ، ولكن أفعالها ماديه لتعلقها بالبدن ، فكانت آثار والفوائد المترتبه على عرفان النفس تشبه هذا الموضوع المجّرد ) .
وأورد الامام المفسر ما حكاه القرآن الكريم عن رهبانية النصارى فقال تعالى : { ورهبانيّه ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلأ ابتغاء رضوان الله فما رعوها حقّ رعايتها } .
وما حكاه عن تعبّد بعض اليهود وتنسكهم قال تعالى : { ليسوا سواء من أهل الكتاب أمّه قائمه يتلون آيات الله آناء اللّيل وهم يسجدون * يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين } .
وخلص الامام المفسر الى أن هذا العلم : له شروط ،  وآداب ، وأحكام ، فإذا روعيت وصل الفرد الى المقصود ، وهو رضوان الله تعالى ، وإذا فقدت ترتب على هذه المجاهده آثار خاصه إلا أنهم قد يحرمون من المقصود الأهم .
فإن قيل : إن ما يفعله هؤلاء وما يتّسمون به من زهد أو ترك للذنوب أو اكتساب للفضائل ، سواء أكانوا من أتباع دين ، أو شريعه ، أو لم  يكونوا ، إنما هو بوحي عقيدتهم التي يؤمنون بها ، لا عرفاناً للنفس ؟
ردّ الامام المفسر : إنّ صرف النفس عن الشهوات ، والملذات ، والتمتعات الماديه ، والانقلاع عمّا يوجب بعد النفس عن عالمها الروحاني المجرد ، يوجب صرف النفس الى نفسها ، ويترتب على ذلك آثار خاصه  لا يمكن الوصول اليها بالأسباب الطبيعيه ، والأمور الماديه ، وهذا الأمر لا يختلف فيه المتدين بشريعه ودين ، عن المتعبد الراهب المنكر لجميع ذلك ، لكنّ المنتحلين للحياة الأخرويه يزيدون على سعادتهم هذه في الحياة الدنيا ، الحياة الطيبه في الآخره والدخول في رضوان الله ، حتى الوصول الى يقين وأطمئنان لا يحصل إلا  لمن كان على شريعه  حقّه ومشى على الصراط المستقيم ، الذي بيّنه الله تعالى في شريعة خاتم الانبياء ، ولعله الى هذا يشير الحديث القدسي : ( فمن عمل برضائي ألزمه ثلاث خصال : أعرّفه شكراً لا يخالطه الجهل ، وذكراً لا يخالطه النسيان ، ومحبه لا يؤثر على محبتي المخلوقين ، فإذا أحبّني أحببته ، وافتح عينّي قلبه الى جلالي ، ولا أخفي عليه خاصة خلقي ، وأناجيه في ظلم الليل ، ونور النهار ، حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ، وألبسه الحياء حتى يستحيي منه الخلق كلهم ، ويمشي على الارض مغفوراً له ، وأجعل قلبه واعياً بصيراً ، ولا أخفي شيئاً من جنة ولا نار وأعرفه ما يمرّ على الناس في القيامه من الهول والشده ، وما أحاسب به الأغنياء والفقراء والجهال والعلماء ، وأنومه في قبره وأنزل عليه منكراً ونكيراً حتى يسألاه ولا يرى غمّ الموت ، وظلمة القبر واللحد ، وهول المطّلع  ، ثم انصب له الميزان وأنشر ديوانه ، ثمّ أضع كتابه في يمينه فيقرأه منشوراً ، ثمّ لا أجعل بيني وبينه ترجماناً ، فهذه صفات المحبين ، يا أحمد اجعل همّك همّا واحداً ، واجعل لسانك لساناً واحداً ، واجعل بدنك حياً لا يغفل ابداً ، من يغفل عنّي لا أبالي بأي واد هلك ) .
قال الامام المفسر : وهذا مقام خطير لا يمكن الوصول إليه إلا بإفناء النفس في الله تعالى ، والبقاء ببقائه ، لا مجرد ترويضها وصرفها عن الشهوات والملذات ، فإن ذلك قنطره واحده من القناطر العديده في هذا السير والسلوك .

غاية العرفان ومعرفة النفس : 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قسم الامام المفسّر - العلامه السيد السبزواري - المشتغلين بعرفان النفس ، بحسب غاياتهم من ذلك  على ثلاث أقسام :
الأول : المشتغلون بعرفان النفس للحصول على آثار غريبه خارجه عن الطريق المألوف ، المبنيّ على قانون الأسباب والمسببات الماديه ، وهؤلاء هم أصحاب السحر والطلّسمات وأرباب تسخير أرواح الكواكب ، وأرواح الموكلين على الجنّ ، وأرواح الآدميين ، وأصحاب التمائم والدعوات والعزائم وأرباب الذكر ، وأصحاب الشعوذه .
وهذه كلها لا تخرج عن حيطة الماده ، وأن حقيقة النفس مغايره لما عليه هؤلاء ، فنالوا شيئاً من آثار النفس ، ولكنهم غفلوا عن واقع النفس وفاتتهم معرفة حقيقتها .
الثاني : المشتغلون بعرفان النفس والغوص في حقيقتها ، ومعرفة خصوصياتها  - ممّا يشينها ويزينها - وأمراضها وأدوائها ، فلا همّ إلا معرفتهم لنفسهم، وهؤلاء لا تتم المعرفه لهم لأنها إنما تتمّ بمعرفة صانعها ومبدئها ومنتهاها ، فكيف تتمّ لهم المعرفه وقد غفلوا عن سبب وجودها والقائم بأمرها ، ويسلك في هذا كثير ممّن يشتغل في هذا الطريق كالصوفيه والكهان وغيرهم ، وهم قد يحصلون على شيء من آثار النفس وعلومها .
الثالث  : المشتغلون بعرفان النفس بوصفها طريقاً الى معرفة بارئها ، والوصول الى حريم كبريائه ، والدخول في رضوانه ، وهم الذين جاهدوا في الله حقّ جهاده ، وطريقتهم هي التي توافق الشرع المبين ، ويرتضيها الدين ، فالنفس عندهم آيه من آيات الله ، وقد انجذبوا اليها  لأنّها توصل السالك الى الله ، فهو المقصد والغايه التي لابدّ  من أن ينتهي اليها ، فكان قوله تعالى : { وأنّ الى ربّك المنتهى } محط أنظارهم ، فلم يسلكوا طريقاً إلا بعد معرفة الغايه والمنتهى ، فهم قد عرفوا الله قبل كل شيء ، وبعد كل شيء ، ولم يكن شغلهم هو الحصول على الآثار الماديّه المرتبطه بالنفس ، ولا على علومها ، أو الآثار التي ترتبط بها  التي تخرج عن حيطة الماده ، وأرادة السالك وشعوره بل كان غرضهم وشغلهم الشاغل هو الحصول على رضا الله تعالى ، والانتهاء اليه فإنه أعظم المقاصد وأهمها عندهم ، وتضمحلّ عنده جميع الغايات والمقاصد ،
هؤلاء يتسمون بالكتمان بمقتضى قولهم " عليهم السلام " : ( المؤمن ملجم ) فلا يتحدثون  عما وقع في أسماعهم أو شاهدوا بأبصارهم أو جرى على أيديهم ، فإن الأمر صعب مستصعب ، لا يتحمّله إلأ نبي مرسل أو وليّ  أو مؤمن امتحنه الله امتحاناً  ، فهم مصداق لقول الامام الصادق " عليه السلام " : ( تعرف نفسك به - أي بالله - ولا تعرف نفسك بنفسك ، وما تعلم أنّ ما فيه له وبه ) .
فإن حقيقة النفس هي الفقر والحاجه الى الله تعالى ، المملوكه له ملكاً لا تشتغل بشيء دونه ، فكيف يمكنهم التخطّي عمّا يريده المالك ، ويتعدّى عليه ،  فلا إراده لها دون إرادته عزّ وجلّ ، ولا حاجه دون رضا سيّدهم ومالك زمامهم ، وهو العرفان الحقيقي ،
فهو : علم ، وعمل ، وأما غيره فإن وصف به فإنما هو على نحو المجاز .
والحمد لله رب العالمين 


***********************


***********************

إرسال تعليق

التعليق على الموضوع :

أحدث أقدم